قبيل مشاركة الرئيس السوري، بشار الأسد، في القمّة العربية في جدة، رأى عدد من المراقبين الغربيين أن التحوّلات الجديدة أثبتت أن دول «مجلس التعاون الخليجي» تمكّنت من التغلّب «مجدداً» على الانقسامات الداخلية، بهدف تحقيق مصالحها المشتركة التي باتت تتمثّل بشكل رئيس في تحقيق الاستقرار في المنطقة، «مبشّرةً» بالتالي بـ«شرق أوسط جديد» بعيدٍ عن الصراعات العبثية. كما حذّر هؤلاء من الرهان على أن التقارب مع سوريا سيتمكّن من «إبعاد» إيران عنها.بالعودة قليلاً إلى الوراء، وقبل «الانعطافة» السعودية الأخيرة نحو دمشق، وضعت الإمارات والبحرين الحجر الأساس لعملية عودة سوريا إلى «الحضن العربي» من خلال إعادة فتح سفارتيهما في دمشق أواخر عام 2018. آنذاك، حملت مبادرات البلدَين، ولا سيما الإمارات، رسائل رمزية مهمة، مفادها أنه لا يزال للنظام السوري أصدقاء في «مجلس التعاون الخليجي». واليوم أيضاً، تشكّل المساعي لتحسين العلاقات الثنائية بين الرياض ودمشق جزءاً من مساعٍ إقليمية أوسع، تهدف إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط بعد عقودٍ من الاضطرابات، كانت دول «التعاون الخليجي» لاعباً رئيساً فيها.
إزاء ذلك، يرى تقرير في «معهد واشنطن» أن عودة سوريا إلى المدار العربي تشكّل نقطة التقاء بين مسارَين مختلفين، إنّما «متساويَين من حيث الأهمية»، يهدف أوّلهما إلى تخفيف التوتر بين دول «التعاون الخليجي» ومنافسيها الإقليميين، بينما يشمل المسار الثاني سعي دول المجلس إلى تخفيف حدّة التوترات الحالية في ما بينها، ونزع فتيل أيّ صدامات مستقبلية داخل المعسكر نفسه. ولعلّ أبرز المؤشّرات إلى ذلك، تزامُن الزيارة السعودية إلى دمشق مع إعلان الإمارات وقطر، في اليوم نفسه، أنّ العمل جارٍ بين البلدَين لاستعادة العلاقات الثنائية الكاملة وإعادة فتح السفارتَين.
يشير أصحاب هذا الرأي إلى أنه على الرغم من أنه قد يكون هناك تباين بين الدول الأعضاء في «التعاون الخليجي» حول تطبيع العلاقات مع سوريا، فمن المرجح أن تتغلّب «الذاكرة الجماعية للصراعات السابقة» والرغبة في الاستقرار الإقليمي على الانقسامات الداخلية في المجلس. وبالنظر إلى الوقائع الجيوسياسية الحالية، والجهود الدبلوماسية الكبيرة التي أنفقت لـ«كسر الجليد الإقليمي»، والرغبة الواسعة النطاق في الاستقرار الدائم، فمن غير المرجّح أن تسمح دول الخليج بوصول الصراع حول سوريا إلى مراحل متطرّفة، وبالتالي تعريض «وحدتها التي استعادتها أخيراً» للخطر. وبحسب المعهد، فإن أعضاء المجلس نجحوا أخيراً في «تعزيز» ميزتهم المتمثّلة في الحفاظ على الحدّ الأدنى من التوافق في الآراء بشأن المصالح المشتركة، فيما تكشف هذه المساعي الجماعية عن «مرحلة جديدة في الشرق الأوسط»، سيكون فيها الحوار الهادف إلى التهدئة والتعاون ذي المنفعة المتبادلة بديلاً من المواجهة المباشرة والتنافس الشديد.

الرهان على «إبعاد» إيران
وتعقيباً على العودة السورية، يلفت تقرير في «المجلس الأطلسي» إلى أن الحرب الأهلية في سوريا والوضع القائم وضعا العالم العربي أمام خيارَين: إمّا الاستمرار في مقاطعة الأسد، والسماح في المقابل لنفوذ إيران بالازدياد، وللعزلة الدبلوماسية والمالية على سوريا بالاستمرار؛ أو - وهو الخيار الذي لجأت دول الخليج إليه بناءً على ما يقول التقرير إنه رهان خاطئ - محاولة إغراء سوريا لـ«الابتعاد عن طهران»، عبر إعادة العلاقات معها «على مضض» لمواجهة «النفوذ الإيراني غير الخاضع للرقابة». يَرى هذا الرأي أن المنطق الذي يقوم عليه الخيار الثاني، والذي يفرض إعادة الأسد إلى المدار العربي، «غير سليم»، ويستند إلى «فرضية خاطئة»، مفادها أن النظام السوري والأسد لا يزالان «مستقلّيْن»، ويمكن إبعادهما عن طهران، هذا فضلاً عن أن إيران لن تتخلى عمّا بذلته من دماء وتضحيات ورأس مال سياسي في سوريا بسهولة.
من المرجّح أن تتغلّب «الذاكرة الجماعية للصراعات السابقة» والرغبة في الاستقرار الإقليمي على الانقسامات الداخلية


بحسب التقرير، فإن دول الخليج تقود العالم العربي إلى تكرار النهج ذاته الذي اتّبعه إزاء لبنان، والذي «فشل أيضاً في تحقيق أيّ نتائج»، على الرغم من أن «نفوذ إيران، عبر حزب الله في بيروت أخفّ بكثير ممّا هو في دمشق» بسبب طبيعة النظام السياسي في لبنان. ويذهب «الأطلسي» إلى أبعد من ذلك بالقول إن التهدئة في سوريا قد تكون حتى «مفيدة» لإيران، «ولا سيما إذا دخلت مساعدات إعادة الإعمار إلى البلاد». في الواقع، تُعدّ زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، لدمشق أوائل هذا الشهر، خير مؤشّر إلى وضع العلاقات الإيرانية - السورية أخيراً. فخلال الزيارة، أشاد رئيسي بـ«انتصار سوريا رغم العقوبات»، فيما أشاد الأسد بـ«العلاقة المستقرّة والثابتة بين البلدَين بالرغم من العواصف السياسية والأمنية التي ضربت المنطقة»، مشيراً إلى أن هذه الأخيرة لم تؤثّر «على الرؤية المشتركة والثابتة للأحداث». وتابع أن «إيران لم تتردّد في الوقوف إلى جانب سوريا في الحرب التي شُنّت عليها رغم التهديدات والمغريات، وكذلك في تقديم الدعم السياسي والاقتصادي، وتقديم الدماء الغالية حتى». كما وقّع الرئيسان مذكّرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي الشامل طويل الأمد، بما يشمل مذكّرة تفاهم بشأن التعاون في صناعة النفط.
في المقابل، نقلت مجلة «نيوزويك» الأميركية عن دبلوماسيين سوريين في نيويورك قولهم إن هذه العودة تحمل معها «رسالة إلى الولايات المتحدة لإنهاء وجودها العسكري المستمرّ والعقوبات التي تستهدف البلاد»، مشيرةً إلى أنها تشكّل حتى الآن «الضربة الأكبر» لسياسة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تجاه سوريا. ويمكن فهم ذلك إذا ما أُخذ في الحسبان أن هذه الخطوة ضربت عرض الحائط بجميع المواقف الأميركية الرسمية المعارضة لها، إذ قالت الولايات المتحدة أكثر من مرّة على لسان مسؤوليها إنها «لا تعتقد أن سوريا تستحقّ إعادة القبول في الجامعة العربية»، وإنها «لن تطبّع مع نظام الأسد»، وهي «بالتأكيد، لا تدعم الآخرين على فعل ذلك».