يعود القول في العنوان، إلى حكاية تروى عن الزير سالم، عندما دار حوار بين البسوس والتُبّع اليماني، حينما أخذت تصف له الجليلة ابنة مرّة، بأوصاف ربما ليست موجودة بامرأة بين نساء الأرض، فاستنكر الملك هذا الوصف قائلاً لها: كأنكِ تزينينها لي وَتبالغين في وصف هذه المرأة؟ فردّت عليه بالعبارة التاريخية والتي بقيت أمثولة «ليس من رأى كمن سمع يا مولاي».سأحاول في هذه المقالة، وليس من السهل القيام بذلك، في عجالة، أن أنقل من عصارة تجربتي، عن الحروب التي خاضها الشعب الفلسطيني، عبر مقاومته في قطاع غزة لسنوات، من خلال تغطيتي الإعلامية في فضائية «فلسطين اليوم»، لقد عايشت حروب القطاع ابتداء من العام 2012، وصولاً إلى آخر معركة خاضتها المقاومة قبل أيام، ألا وهي معركة «ثأر الأحرار»، وأنا أعمل مذيعاً من داخل استديوهات القناة، فماذا أول ما يخطر في بالي عند ابتداء أي حرب، الضحايا.

الضحايا
من أين أبدأ؟ أتساءل عن الضحايا من الأطفال والنساء، والعائلات، كم سيكون الرقم هذه المرة؟ أتساءل مرة أخرى، وكم سيكون حجم الألم عند بداية كل حرب؟ لقد رأيت القذائف تتهاوى على البيوت، والصواريخ التي تسقط الأبراج، مهما تكن عالية وضخمة، عبر أسلحة فتاكة مميتة.
من المشاهد التي لم تفارق مخيلتي، وأرجح أنها في حرب عام 2014، المعركة التي أطلق عليها الاحتلال «الجرف الصامد»، والمقاومة (الجهاد الإسلامي «البنيان المرصوص»، وحماس «العصف المأكول»)، كنت أذيع الأخبار المتواردة، في ساعة متأخرة من الليل، وكان مراسلنا في مستشفى الشفاء بغزة، معي على الهواء مباشرة، وإذ في تلك اللحظة، تصل سيارة إسعاف تحمل خمسة أطفال من عائلة واحدة، مصابين، لم يكن معهم والديهم، كان مصير الوالدين مجهولاً ، لقد رأيت المسعفين ينقلونهم مسرعين إلى داخل المستشفى، وكانوا في حالة إغماء (أو موت)، مشهد لم أنسه إلى الآن، ولم يغادر ذاكرتي، كان من الصعب جداً علي مهما بلغت مهنيتي، أن أحيّد مشاعري جانباً، لم أعرف ماذا أقول؟ لكن الكلام في النهاية خرج، «انظروا إلى الإجرام الإسرائيلي بحق الأطفال». قلت هذه الجملة، لكن لا جملة تصل لوجع وألم جملة أهل غزة، حين يقولون «عائلة شطبت من سجل النفوس». هذا ما حدث، أبيدت 142 عائلة فلسطينية خلالها، وهذا ما كان يحدث بقرار من القادرة العسكريين في حرب 2014، كما كتبت الصحافية الإسرائيلية عميرة هس في «هآرتس» عام 2014. وهو ما يحدث في القطاع منذ حاصرته إسرائيل عام 2007، فقد وصل عدد من قتلتهم إسرائيل خلال أكثر من 15 عاماً، 5418 إنساناً، 23% أطفال، و9% سيدات، فضلاً عن عشرات الآلاف من الجرحى، وذلك بحسب أرقام أصدرها مركز «الميزان لحقوق الإنسان».
في العدوان الأخير «ثأر الأحرار»، استشهد نحو 33، وجرح أكثر من 100، الألم عليهم كبير، كما أي عدوان سابق، استشهد فيه المئات أو الآلاف، لكن ما ضاعف حجم الألم هذه المرة أيضاً، فقدان ستة من كبار القادة العسكريين لدى «الجهاد الإسلامي»، حزنت على خسارتهم، وتساءلت كما تساءل غيري، لماذا؟ وأين الخلل؟ لكنني أؤمن أنها ضريبة التحرير، وهذا ما نقلته بالصوت والصورة للجمهور، لا لأرفع المعنويات فحسب، بل لأن الكلمة إن كانت تنبع من إيمان حقيقي تصل، وهذا ما فعلته مع زملائي في الاستديو، وفي الميدان، فالإعلام في هذه اللحظات، هو صلب المعركة، والكلمة رصاصة في قلب العدو، ووردة على صدر الأهل تحت القصف.

المقاومة
في الجانب الآخر من الحروب المظلمة التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، صورة مضيئة مشرقة، لا يحجبها ظلام، تكمن في بسالة المقاومين، وشجاعتهم المنقطعة النظير، في روح التضحية والفداء، وقد رأيتها في المواقف البريئة من الصغار، وفي حس كبار السن، وفي دعاء الأمهات، ورأيتها في الصواريخ التي تطلقها أيدي الرجال، ليلاً ونهاراً، وفي «تاسعة البهاء» نسبة إلى الشهيد بهاء أبو العطا القائد في «سرايا القدس»، ورأيت تلك الصورة، حين تسقط تلك الصواريخ على المستوطنات، وعلى تل أبيب، وفي حظر التجول الذي أعلنه أبو عبيدة المتحدث الإعلامي باسم كتائب القسام ذات حرب. وفي كل جولة جديدة من المعارك، بات مشهد رعب المستوطنين، والمدن الخالية، يؤكد على إشراقة الصورة. هذه الصورة المشرقة، كما أنها تدلل على المسار الإلزامي لتحرير فلسطين، فهي أيضاً عزاء أمام الجرائم التي يرتكبها العدو، فهي شعب عنيد، ومقاومته التي لا تلين.
أذكر من المشاهد المفرحة التي لن أنساها ما حييت، أنه في العام 2021، قبيل انطلاق معركة «سيف القدس»، وكنت على الهواء مباشرة، أغطي اقتحامات المستوطنين في «مسيرة الأعلام الإسرائيلية» للقدس، واعتداءات المستوطنين على حي الشيخ جراح. وبعد أن أطلقت المقاومة تهديداتها للاحتلال للكف عما يفعله، وصلنا خبر عاجل «سرايا القدس تستهدف مركبة عسكرية إسرائيلية بصاروخ كورنيت على حدود قطاع غزة»، لحظات ووصلنا الفيديو، وما هي إلا لحظات أخرى، ووصلنا خبر عاجل آخر، عن إطلاق صافرات الإنذار في القدس، لقد انطلقت الصواريخ من القطاع، لقد رأيت على الهواء مباشرة، رأيت بأم عيني، كيف فرّ المستوطنون كالجرذان، يميناً وشمالاً، وكيف انبطحوا على الأرض، وكيف انتقلوا من مكان إلى آخر، وشرطة الاحتلال ترافقهم وتتصرف مثلهم... أين الجبروت؟ أين القوة؟ لقد اندثرت بالصواريخ، وعلى الهواء مباشرة. هذا ما رأيته من داخل الاستديو، هذا ما أذعته، للمشاهدين، لقد رأى الناس كل شيء، إسرائيل ليست جبارة، وليست قادرة، ولا شيء من كل الفقاعات التي تقال.
في هذه المعركة، رأيت صواريخ سرايا القدس تدك المستوطنات، وتصل إلى تل أبيب، والقدس مرتين، كم كبر قلبي في هذه اللحظات، 1099 صاروخاً بحسب إحصاءات جيش الاحتلال، تصدت القبة الحديدية لـ 470 صاروخاً فقط، والأرجح أن الأعداد أكبر من ذلك.
هذه اللحظات، كانت من أجمل ما رأيته في حياتي، لقد ازداد إيماني منذ تلك اللحظة، أن التحرير آت لا محالة.

السلطة الفلسطينية
كان شعوري وما زال، وما أثبتته التجربة، وما رأيته، أن الشعب في واد، وهذه السلطة في واد آخر، كان الشارع العربي والغربي، يتحرك وينتفض ويثور ويغضب للإجرام الإسرائيلي، والسلطة في سبات مواقفها المستهلكة والباهتة، والتي لا تخرج عن إطار الإدانة، كأنها سلطة لشعب آخر، هل تلك هي المصيبة الوحيدة؟ لا فالمصيبة أكبر عندما رأيت السلطة تقمع التظاهرات في الضفة لدى خروجها لدعم غزة، نعم لقد رأيتها تحد من مشاركة الناس في التظاهرات، لماذا؟ كنت أتساءل، ما هو المبرر لذلك، لا يوجد إلا مبرر واحد، أن السلطة تخشى أن ينقلب الشارع عليها، ولقد استغربت كيف سمحت للتظاهرات في رام الله في الحرب الأخيرة؟!! وهي التي تقمع الحشود الشعبية وفرحة الأهالي بخروج أبنائهم من سجون الاحتلال؟!!
هذه السلطة التي تطبق المثل القائل «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، لكن السؤال، من هو أخاها؟!!! ومن هو ابن عمها؟!!
في هذه الحرب بدت السلطة مهمشة ومعزولة إلى أبعد الحدود، وفعلا الناس في واد، وهي في واد آخر، فلم نسمع لها صوتاً.

بعد انتهاء فترة التغطية الإعلامية
أعرف عن الفنانين، أنه عندما ينتهي دورهم التمثيلي في تجسيد شخصية، يعودون إلى طبيعتهم، لسنا ممثلين بكل ما في الكلمة من معنى، لكننا نؤدي أيضاً على الهواء شيئاً من أدوار تمثيلية، لكننا لا نخرج من أدوارنا، بل تحفر الحروب بمآسيها وبطولاتها في قلوبنا وأرواحنا، عميقاً، طالما الحدث مستمر، فأنا لست أنا، أنام وأستيقظ، وتستمر معي المشاهدات ولا تذوي إلا بعد فترات طويلة. ربما هنا نحمد الله تعالى على نعمة النسيان، لكن يبقى ما هو أشد إيلاماً، وأشد فرحاً، وأستغرب فعلاً عندما أسأل الناس، هل تتابعون الحرب؟ ليس الكل كذلك، فأستغرب أكثر.
هذا شيء من تجربتي في حروب مرت، لكن مسار نضال الشعب الفلسطيني مستمر، وربما ستكون هناك مشاهدات مؤلمة وأخرى فرحة، و«نبقى معكم».