ليس خافياً على أحد حجم التحدّي الذي مثّلته معركة «ثأر الأحرار» للشعب الفلسطيني، كما للعدوّ. من جهتنا، كان لخسارة القادة وأسرهم وكلّ الشهداء في غزة أثرٌ كبيرٌ في نفوس الجمهور، لكنّ تحديّات المعركة لم تتوقّف عند هذا الحد. فكانت أسئلة الوحدة الميدانية والقدرة على الاستمرار رغم الخسائر، ومعها نقاش التصعيد وحدوده ومآلاته، كلّ ذلك والعدوّ يحاول الهرب بانتصارٍ ميدانيّ مؤقت في معركةٍ طويلة.ومن بين المشاهد الراسخة في أذهاننا خلال هذه المعركة، مشهد الدمار الذي تسبّب به سقوط صاروخ للمقاومة الفلسطينية في مستعمَرة «رحوفوت» جنوبي تل أبيب في 14 أيار، وهو الحدث الذي شكّل علامة فارقة في حاضر المعركة (التعجيل بوقف إطلاق النار) وفي مستقبل الاشتباك بين المقاومة الفلسطينية والعدو.
صاروخ «رحوفوت» ليس أول صاروخٍ يصيب العدو في ما يسمّى بجبهته الداخلية، لكنّه مؤشّرٌ لإرهاصات انقلابٍ في ميزان العلاقة بين المقاومة الفلسطينية والعدو، وهو ما يجب علينا تقديره وفهمه لإدراك جانبٍ من دلالات «ثأر الأحرار» في ما يخصّ مقاومتنا والعدو على حدّ سواء.
يعرّف المفكّر الأفريقي - الجزائري فرانتز فانون العالم الاستعماري بكونه عالماً منقسماً انقساماً كاملاً. والانقسام في العالم الاستعماري ينطلق بعنف المُستعمِر ويمسّ جميع جوانب الحياة الإنسانية، من العالم الخارجي المتمثّل في البنيان والازدهار، وصولاً إلى العالم الداخلي للفرد والجماعة، بما يخصّ الكرامة وإدراك الهوية. وقد شكّل الاستعمار الصهيوني في فلسطين نموذجاً مطابقاً لتعريف فانون، وذلك بمحاولاته الدائمة لتقديم إسرائيل بهيئة «الواحة» المتقدّمة والواثقة والمتطوّرة في محيطٍ متخلّف رجعيّ وكاره لذاته. والأمثلة لا تنتهي سواء داخل فلسطين أو خارجها عن سعي الاستعمار لترسيخ هذا التقسيم وما يحمله من تثبيتٍ للهيمنة والتفوّق الذي ينطلق بالعنف العسكري ويتأبّد بالعنف النفسي المُمارَس من قبل المستعمِر على المستعمَر.
ومن آثار هذا التقسيم سلسلة من التناقضات السببية بين طرفَي الحرب. فالمستعمِر الذكيّ القويّ المبدع، لا بدّ وأن يقابله مستعمَرٌ غبيٌّ ضعيفٌ متخلّف، وكذلك الأمر في ما يخصّ المجتمعين. وعلى رأس ثوابت هذا التناقض تتربّع فكرة الأمن التي تقع في صلب دعاية الحشد، ومن معايير نجاح المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. إذ طوال العقود الماضية، كانت معادلة الحرب مع الصهاينة تتلخّص بدمار واقتحامات وضمّ أراضٍ ومجازر واغتيالات للجانب الفلسطيني، مقابل أمن وهدوء وازدهار في الجانب المحتلّ. هذا التناقض كان يتآكل شيئاً فشيئاً منذ الانتفاضة الأولى والعمليات الاستشهادية، وصولاً إلى حرب تموز 2006، وما تلاها من حروب غزّة، وليس انتهاء بـ«سيف القدس» وما تلاها.
سيبقى ثأر الأحرار قائماً ما دام في بلادنا أحرار، ومهما بلغ الحزن على أرواحٍ عزيزة نفقدها على الطريق، لا بدّ وأن نبصر الأمل القائم بدماء الشهداء وثبات القابضين على الزناد


لكنّ صاروخ «رحوفوت» قدّم صورة متقدّمة عن تآكل هذه المعادلة. فالدمار والفوضى اللذان أحدثهما الصاروخ، دفعا بكثيرين لمقارنة المشهد بصور ما بعد الغارات الصهيونية في غزّة. هذا الانتقال البصري للدمار من الجانب الفلسطيني إلى الجانب الصهيوني، يؤسّس لتغيّر في سقف «المتوقّع» لدى الطرفين في المعارك القادمة. فالدمار لم يعد محصوراً بالجانب الفلسطيني، مثلما لم يعد الأمن حكراً على الجانب الصهيوني. من هنا، يتشكّل وعي مغاير لدى طرفَي الحرب، فيدفع المستعمَر حدود «الممكن» في مقاومته إلى مراحل لم تكن بالحسبان، فيما يتلقّى المستعمِر جرعات من الشكّ حول حسابات الثمن التي يقوم عليها مشروعه الاستعماري.
من هنا، نستطيع فهم الاستراتيجية التي اتبعتها حركات المقاومة في عصر ما بعد «أوسلو»، وهي استراتيجية تراكم القوة والخبرة. فالاستعمار الصهيوني استعمار ماديّ لا تزيله الكلمة (على أهميّتها) ولا الصرخة (على أهميّتها)، بل هي القوة وحدها القادرة على تحطيم جدار التفوّق، وإعلان دخولنا رسميّاً إلى حلبة الصراع، بصفة اللاعب وليس بصفة الضحية. ومن المفارقات المهمّة هنا، هو أنّ مجرّد دخول المقاومة العربية إلى حلبة الصراع كندٍّ للعدوّ، كفيلٌ بتحطيم أساسات المشروع الاستعماري. وهذا ما يفسّر تصريحات قادة المقاومة حول احتمالية عدم الحاجة إلى معركة كبرى للقضاء على هذا المشروع. فالعدوّ لم يدخل هذه الحرب إلا بشروطه وما يلزمه لتأمين تفوّقه فيها، وأيّ مسٍّ بهذا التفوّق أو تغيير لقواعد اللعبة، هو هزيمةٌ للمشروع الاستعماري وأربابه.
في تقديمه لكتاب «معذّبو الأرض»، يعبّر جان بول سارتر عن دور الفعل المقاوم في انقلاب موازين الحرب الاستعمارية، فيقول إن المستعمَر «حين يقتل أوروبياً [مستعمِراً] يضرب بحجرٍ واحدٍ ضربتين: يزيل مضطَهِداً ومضطَهَداً في آنٍ واحد: إذ يبقى بعد القتل رجلٌ ميّت ورجلٌ حرّ." وفق هذا المنطق، نستطيع أن نفهم الدمار الذي خلّفه صاروخ «رحوفوت» في وعي الصهاينة مقابل الثقة التي زرعها في عقولنا. وبنفس المنطق، بإمكاننا أن ندرك كيف استطاعت «ثأر الأحرار»، ومن قبلها «سيف القدس» تكريس روح الأمل بالتحرير والعودة مكان بؤس النكبة والهزيمة، رغم تصادم الواقعتين في الذاكرة والتوقيت.
ختاماً، سيبقى ثأر الأحرار قائماً ما دام في بلادنا أحرار، ومهما بلغ الحزن على أرواحٍ عزيزة نفقدها على الطريق، لا بدّ وأن نبصر الأمل القائم بدماء الشهداء وثبات القابضين على الزناد.
إنّ الحرب سجال: نُقتَلُ فيها ونَقتُل. وكيفما دار الضمّ والفتح، خيارنا المقاومة.