تونس | حكمت الدائرة الجناحية المختصّة بالنظر في قضايا الإرهاب في المحكمة الابتدائية، بسجن رئيس حزب «النهضة» التونسي، راشد الغنوشي، لمدّة عام، بتهمة «تمجيد الإرهاب، والتحريض على قوات الأمن، والإساءة إلى أجهزة الدولة». وفيما لاقت خطوة توقيفه، الشهر الماضي، ردود فعل مستنكرة، يبدو أن الوضع اختلف بعد إصدار الحكم، إذ لم يُثر انتقادات تجاه السلطات، وخصوصاً أنه جاء في ظلّ تزاحم ملفّات كثيرة تحتلّ أولوية بالنسبة إلى شركاء تونس، والذين لا يزالون يحذّرون من خطر الانهيار الاقتصادي، وما يمكن أن يستتبعه من انعدام للاستقرار قد يتجاوز حدود هذا البلد. ومن جهتهم أيضاً، اكتفى مناصرو «الشيخ» بالنضال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والدعاء لنصرة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في الانتخابات الرئاسية، ولـ«فك أَسر» الغنوشي. وفي موازاة الحُكم الصادر، تَكبر قائمة السياسيين الموقوفين، وخاصّة من الإسلاميين، وآخرهم النائب السابق الصحبي عتيق، فيما تتّسع أيضاً قائمة مَن يمكن أن تشملهم التوقيفات لتطاول مختلف التيارات السياسية المعارِضة لقيس سعيد، ما يشيع حالة من الارتباك والتردّد وضعف المواقف لدى المعارضة، علاوة على غياب شبه تامّ للأنشطة الحزبية أو الجبهاوية، باستثناء مسيرة يتيمة لـ«جبهة الخلاص الوطني» كان حضور الجمهور فيها ضعيفاً. واكتفت «الجبهة»، في الآونة الأخيرة، بإصدار بيانات تُجدّد فيها مواقفها الرافضة لِما تعتبره «انقلاباً»، وذلك في سياق التنديد بالحكم الصادر ضدّ الغنوشي، واعتقال قياديين إسلاميين آخرين.وتترافق هذه الاعتقالات مع تراجع التصريحات الغربية حيال الوضع السياسي في تونس، واحتشام المطالبات بإطلاق سراح الموقوفين السياسيين، على رغم تواتر الزيارات الرسمية لعدد من الوزراء الأوروبيين للعاصمة تونس، وآخرها زيارة وزراء خارجية كلّ من بلجيكا حاجة لحبيب، والبرتغال جواو غوميز كارفينه، وإيطاليا ماتيو سالفيني. وفي الوقت ذاته، لا يبدو الرأي العام التونسي مهتمّاً بالتطوّرات على الساحة السياسية، إذ إن محاكمة الغنوشي التي طالب بها كثيرون خلال سنوات حُكمه، لم تلقَ اهتماماً يُذكَر، بعدما فقد التونسيون ثقتهم بطرفَي الصراع، وانشغلوا بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية، وبأحداث مسّتهم بشكل مباشر، أهمّها الحادثة الإرهابية في محيط معبد الغريبة اليهودي في مدينة جربة، والتي راح ضحيّتها أمنيون ومدنيون، وكذلك الصراع بين نقابات التعليم ووزارة التربية والتي تركت أبناءهم رهائن منذ بداية السنة.
أكّدت مصادر من «اتحاد الشغل» أن مبادرة الأخير للحوار الوطني اكتملت


في هذا الوقت، يستمرّ «الصراع البارد» بين السلطة والأمانة العامة لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي لم يُصدر بعد مبادرته للحوار الوطني، إذ لا تتوفّر ضمانات للسير بها أو أخذها على محمل الجدّ، ولا سيما أن سعيد يواصل مهاجمتها، فضلاً عن الصراعات الداخلية للمنظّمة التي تُضعف قدرتها، والارتباك العاصف بالمجتمع المدني، شريك النقابات، الذي لم يَقدر على تشكيل قوّة قادرة على إحداث نوع من التوازن. وانطلاقاً من هنا، يُرجّح أن يكون طرح المبادرة في هذه الظروف، بلا أثر وبلا جدوى. فالأصل أن تكون المبادرات إمّا مفتاحاً لحراك حقيقي، أو أن تكون مرجعاً نظريّاً لحراك يكسر حالة الجمود، وهما احتمالان لا تتوافر ظروفهما الموضوعية. ولعلّ ما تقدَّم يجعل قيادة الاتحاد تتريّث - وربّما تتردّد - في إطلاق المبادرة. ووفق مصادر «اتحادية» تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن لجان المبادرة أَتمّت عملها، بما فيه إنجاز «الوثيقة السياسية» التي تُعتبر الركيزة الأساسية لمجمل الحلول المقترحة في مختلف المجالات.
وتدرك السلطة أن ارتهان الحركتَين المدنية والسياسية لنسق تحرّك «الاتحاد العام التونسي للشغل» مسألة تاريخية، لِما لهذه المنظّمة الاجتماعية من تأثير في الحَراك، وكونها ظلّت على الدوام حامية لكلّ القوى خارج السلطة، واستطاعت أن تُحدث توازناً مع كلّ الأنظمة، ومعها يكون التفاوض للخروج من الأزمات أو الحدّ منها. ومع ذلك، ربّما تكون الصعوبات التي يعيشها الاتحاد اليوم فرصة لإحكام النظام سيطرته أكثر على المجال العام، وخصوصاً مع سعي الأخير إلى تعزيز التعاون بينه وبين منظمَتين نقابيتَين «موازيتَين» يلتقي مسؤولوهما بمسؤولين حكوميّين وبرئيس البرلمان، وتَلقَيان دعماً رسميّاً وعلنيّاً، في رسالة واضحة إلى المنظّمة النقابية التاريخية، مفادها أنها لن تكون الطرف الوحيد المعنيّ بالتفاوض، وأن إشراك الطرف النقابي في أيّ مسار لن يقتصر عليها. ولأن حضور هاتَين المنظمتَين كان محتشماً على مستوى التعبئة العمّالية، فإن دعم السلطة قد يوفّر لهما حضوراً أكبر في مختلف القطاعات. وتقابل محاولاتُ وضعِ اليد هذه، محدودية في «النتائج السياسية» لديناميات السلطة داخل البرلمان، بعدما جرت إماطة اللثام عن تشكيلة اللجان البرلمانية. ولا يمكن تبيّن موقع النواب من الحُكم ومن تحديد السياسات القادمة بشكل واضح قبل أن يبدأ البرلمان دورته، إلّا أن أغلب المتابعين يعتقدون أن الخارطة الحالية انبنت في أغلبها على تحالفات قديمة ستكون مؤقّتة، وأنه يمكن أن يعاد توزيعها في حال الانطلاق في العمل الفعلي للسلطة التشريعية.
بالنتيجة، لا يزال سعيد هو اللاعب الرئيس على كلّ المحاور، وهو وحده القادر على اتّخاذ القرارات وتحريك الأمور في أيّ اتجاه شاء؛ على أن ذلك يبقى رهنَ توفير مداخيل مالية للدولة، وإن كان الحلّ الوحيد المطروح مرتبطاً بقرض «صندوق النقد الدولي» الذي يرفضه الرئيس التونسي بشكل غير مباشر، فيما يتحدّث وزراؤه عن مضيّ الحكومة في التفاوض مع «الصندوق».