عاد المشهد الليبي ليزدحم بتفاعلات ساخنة متّصلة بمساعي إبرام التسوية السياسية وإجراء الانتخابات، وسط توقّعات بترحيل هذا المسار إلى عام 2024 على أقلّ تقدير. وبينما كثّف رئيس «حكومة الوفاق»، عبد الحميد الدبيبة، اشتغاله على دبلوماسية المحاصصات الاقتصادية مع مجموعة واسعة من الأطراف الخارجيين المعنيين بأزمة بلاده، مترقّباً ما سترسو عليه نتائج الانتخابات التركية، افتتح اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، دورة جديدة من علاقاته بإيطاليا، مراهناً على إمكانية لعبه أدواراً هامة في حفظ الأمن في المثلث الحدودي جنوب شرق ليبيا مع تشاد والسودان. وجاء ذلك في وقت يستمرّ فيه تردّد اسمه من بوّابة تقديمه دعماً مفترضاً لقوات «الدعم السريع» بقيادة الجنرال السوداني، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، وخصوصاً مع زيارة نجله، الصديق حفتر، للخرطوم، ولقائه «حميدتي» في 10 نيسان الفائت، أي قبل أقلّ من أسبوع من اندلاع الأزمة في السودان.
تداعيات الأزمة في السودان
تُمثّل الأزمة الراهنة في السودان تهديداً لحالة الأمن في ليبيا، ولا سيما في مناطقها الجنوبية، وسط توقّعات أيضاً بتأثير بعيد المدى على الانتقال السياسي. وكان سبق الأزمةَ تنسيقٌ متبادل بين طرابلس والخرطوم، وتبادل للمعلومات بغرض تيسير عودة المرتزقة السودانيين من الأراضي الليبية (عبر «معسكر شيفروليه / كريب التوم» على الحدود السودانية - الليبية)، واشتغال على تعزيز التبادل التجاري بين البلدَين بعد وصوله إلى مستويات دنيا للغاية. وحظي هذا التنسيق بدعم أممي، تَمثّل في زيارة المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبدالله باتيلي للخرطوم في الـ30 من آذار الفائت، واجتماعه مع رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، لمناقشة مسألة إعادة أولئك المرتزقة (تُقدّرهم الأمم المتحدة بنحو 11 ألف جندي يعملون في صفوف قوات حفتر منذ عام 2021). وفي المقابل، أشارت تقديرات إلى إمكانية استفادة السودان من الاستقرار في ليبيا، وإطلاق عمليات إعادة البناء بدخل يصل إلى 22.7 بليون دولار في الفترة 2021-2025. لكن في حال استمرار الأزمة في السودان وتمدّدها عبر الحدود الليبية والتشادية، فإن ليبيا ستشهد موجات إضافية من اللاجئين وعناصر المرتزقة القادمين من السودان وربّما مروراً بتشاد، مع ما يعنيه ذلك من انشغال قوات حفتر بمهمّة تأمين الحدود، أو توفير ملاذ آمن للمسلّحين السودانيين، ولا سيما أن الكثيرين من هؤلاء حاربوا في السابق في صفوف تلك القوات.

حفتر في روما: نحو دور جديد؟
وجّهت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، اتّساقاً مع السياسات «الهجومية» الجنوب متوسطية التي باتت تنتهجها منذ تقلّدها منصبها (تشرين الأول 2022)، الدعوة إلى خليفة حفتر لزيارة روما (3 أيار)، ما أنبأ بتغيّر مقاربة روما، وتوجّهها نحو براغماتية أكبر في الاستفادة من مقدّرات حفتر في المرحلة المقبلة، ولا سيما في ما يتعلّق بالهجرة غير الشرعية والأمن في ليبيا وإقليم الساحل، وسط توقّعات بحصول حفتر على دعم لوجيستي إيطالي لفرض سيطرته على المثلث الحدودي مع السودان وتشاد لمنع مزيد من التدهور هناك. كذلك، بدا لافتاً أن الزيارة جاءت في وقت أُعلن فيه عن منح «مؤسّسة النفط الليبية، شركة «إدنوك» الإماراتية (أيار الجاري)، حقوق استكشاف الغاز والنفط في حوض غدامس (غربي ليبيا)، علماً أن زيارة ميلوني لأبو ظبي في آذار الفائت رافقتها أنباء عن بدء شراكة استراتيجية بين الأخيرة وروما، ستكون ليبيا إحدى ساحاتها. أيضاً، أتى الاستقبال «الاحتفائي» لحفتر، تزامناً مع أزمة دبلوماسية بين روما وباريس، ولّدها اتّهام وزير الداخلية الفرنسية، جيرالد دارمانان، الحكومة الإيطالية بالعجز عن إدارة أزمة الهجرة. وكانت إيطاليا قدّرت عدد المهاجرين إليها، منذ مطلع العام الجاري وحتى 4 أيار، بنحو 42.5 ألف شخص مقارنة بنحو 11 ألف شخص في الفترة نفسها من العام الماضي، ما يمثّل زيادة تقترب من أربعة أضعاف، فيما تتوقّع مؤسّسات إيطالية وصول الرقم في نهاية 2023 إلى أكثر من 110 آلاف شخص يَفِد أغلبهم عن طريق الأراضي الليبية. ويفسّر تصاعد هذه الظاهرة، نظرة الحكومة الإيطالية الراهنة إلى حفتر، كأداة فاعلة للحيلولة دون تدفّقات هائلة.
ارتهنت الأزمة الليبية، مرّة أخرى، بتحوّلات الظروف الإقليمية والدولية


ليبيا والعامل التركي
لعبت تركيا الدور الأكبر في دعم «حكومة الوفاق» بقيادة عبد الحميد الدبيبة في مواجهة تحدّيات وعراقيل خطيرة داخلياً وإقليمياً. وبناءً على ذلك، يترقّب الأطراف الليبيون، بقلق بالغ، ما سترسو عليه نتائج الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية. ويرى مراقبون أتراك أنه في حالة فوز المعارضة، فإن ملفّ علاقات تركيا الخارجية لن يتغيّر على المدى القصير، في ظلّ تحوّل وزارة الخارجية التركية إلى دائرة «دولتية» مهمّة لصنع هذه السياسات بمنأى عن بقية القوى السياسية في تركيا لمدّة عقدَين تقريباً، وهو ما سينطبق بشكل أكبر على المناطق التي تتدخّل فيها أنقرة عسكرياً، وفي مقدّمتها ليبيا، وخصوصاً في ظلّ المكاسب الاقتصادية والسياسية والعسكرية الكبيرة التي حقّقتها هناك. كما أن هذا الفوز لن يهدّد صناعة السلاح التركية التي كانت الذراع الطولى لأنقرة في تغيير «الأمر الواقع» في ليبيا (وجنوب القوقاز وأوكرانيا ضمن نقاط صراع أخرى). أمّا وعود مرشّح المعارضة، كمال كيليتشدار أوغلو، باستعادة مكانة وزارة الخارجية التركية كمؤسّسة فاعلة وذات استقلالية ملموسة، فلن تمسّ ملفّ الوجود التركي في ليبيا، والذي سيظلّ في قبضة الأجهزة العسكرية والأمنية التركية. ويُضاف إلى ما تَقدّم، أن تحوّلات تركيا الأخيرة، تحت قيادة رجب طيب إردوغان، وجنوحها إلى تسوية عدد من الخلافات مع دول فاعلة في الملف الليبي (مثل مصر منذ منتصف نيسان 2023) كل ذلك يقلّل من توقعات حدوث «انقلاب» في السياسات التركية في هذا البلد.

واشنطن وليبيا: تآكل مسار التسوية
عادت واشنطن، مجدّداً، إلى سياستها الأثيرة المتمثّلة في إدامة الفوضى في ليبيا، إمّا لشدّ أطراف الصراع نحو مواقف تفاوضية معيّنة، أو لتوظيف الأزمة في ملفّات إقليمية أخرى خدمة لمصالح واشنطن المباشرة. ويلاحَظ هذا التوجّه، بالأساس، في تراجع مستوى الاهتمام الدبلوماسي الأميركي بمسار التسوية في ليبيا، وفق ما أظهره لقاء السفير الأميركي، ريشتارد نولان (7 مايو)، مع الرئيس التشادي الانتقالي، محمد ديبي، وأيضاً ما شهدته القاهرة، في الوقت نفسه (8 أيار)، من زيارة لوفد رفيع المستوى من الكونغرس الأميركي برئاسة مايك تيرنر (مسؤول الاستخبارات)، بهدف تعزيز الإسهام المصري في ملفّات عدّة من بينها «استقرار الوضع في ليبيا». ومن شأن انحسار أجندة الاهتمام الأميركي ليقتصر على مسألة الاستقرار في ليبيا، إعادة الأخيرة إلى المربّع صفر، في وقت يتأكّد فيه وجود تآكل حادّ في مسار التسوية السياسية، والذي كان مقرّراً الدفع به منتصف العام الجاري على الأقلّ. كذلك، فإن توسع صلة حفتر بالترتيبات الإقليمية الدولتية، وتعاظم دوره المرتقب في خدمة أطراف دولية وإقليمية على نحو يتناقض كلّياً ربما مع مصالح الدولة الليبية، يثيران شكوكاً حقيقية في رغبة واشنطن في دفع الحل واستحقاقاته الانتخابية والدستورية.

خلاصة
ارتهنت الأزمة الليبية، مرّة أخرى، بتحوّلات الظروف الإقليمية والدولية، وبات مسار التسوية برمّته مرحّلاً على أقل تقدير إلى عام 2024. وفي ظلّ عجز الأطراف الليبيين عن تجاوز خلافاتهم، بل وتجدّد رغبتهم في استعادة الأدوار «ما دون الدولتية» أملاً في استدامة الحضور والنفوذ، فإن ليبيا تتّجه بقوة نحو تكريس الوضع الراهن، بوصف البلاد ساحة لتقاسم النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري بين الأطراف الخارجية.