برلين | يعدّ الفن جزءاً مهماً من الثقافة الفلسطينية، ولقد حظي الفن الفلسطيني بشعبية في ألمانيا على مدى العقود الماضية. فهو يتميز بتعدد أشكاله ومواضيعه، من الرسم والنحت والأدب إلى الموسيقى والأغاني والفيلم. وهناك العديد من المعارض والفعاليات الفنية التي تضم أعمالاً فنية لفنانين فلسطينيين، وهي بدورها تستقطب جمهوراً واسعاً من مختلف الأعمار والجنسيات. كما يقوم الفنانون الفلسطينيون في ألمانيا بتنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتعليم الفنون الفلسطينية للمهتمين بها. ومع ذلك، فإن الفن الفلسطيني يتعرض أحياناً لبعض الضغوط والتضييق، وخاصة إذا ما كان العمل يتعلق بالفنون التي تحاكي الواقع الفلسطيني والأوضاع السياسية والاجتماعية في فلسطين، فقد يواجه الفنان الفلسطيني في ألمانيا تحديات في عرض الأعمال، تصل في كثير من الأحيان إلى درجة المنع من العرض.
تتفاوت المعاملة التي يتعرض له الفنان الفلسطيني في ألمانيا، فبينما حرية التعبير مضمونة في القانون الألماني، إلا أن الفنان الفلسطيني، أو الفن الذي يعبّر عن القضية الفلسطينية، يعاني من التمييز والتضييق، والضغط من قبل بعض المنظمات المؤيدة لإسرائيل والمعارضة للنشاط الفلسطيني في ألمانيا.
وفي مثل هذه الظروف، ولا سيما بعد القوانين التي تساوي معاداة إسرائيل بمعاداة السامية، فإنّ الناشطين والفنانين المؤيدين لقضية فلسطين يتعرضون للترهيب والتهديد بالعنف من قبل جماعات يمينية متطرفة، إضافة إلى وصف نشاطهم وفنهم بأنه معادٍ للسامية، أو بالحد الأدنى مروّج لمعاداة السامية. ومن شأن هذه التهمة أن تفقد صاحبها عمله أو تعرّض إقامته في ألمانيا للخطر، وهذا ما حصل مثلاً مع بعض موظفي «دويتشه فيله» العربية، فقد طردوا بسبب مراجعة منشورات لهم، اعتبرها التحقيق الذي أجرته القناة الألمانية بأنه «معاداة للسامية»، وهذا ما حصل أيضاً مع مذيع قناة «كيكا» ماتوندو كاستلو الذي فصل من القناة المخصصة للأطفال بسبب مشاركته في نشاط مخصص للأطفال في الضفة الغربية.
أمّا على الصعيد الفني، فالتهمة جاهزة، بخصوص أي عمل أو تجهيز فني يحاكي ما يعانيه الشعب الفلسطيني في أرضه، فإمّا يقمع هذا العمل فيلغى، أو - وهذا ما يحصل عادة - أنه لا يتجرّأ إلا قلّة على حضور المعرض أو التجهيز الفني، خشية من «التهمة» الجاهزة. وهذا ما حصل مثلاً في تجربة الفنانة الفلسطينية رشا الجندي في عملها «صبّار: احتجاج مرئي ضد إسكات الأصوات الفلسطينية في ألمانيا».
يحاول الكثير من الفلسطينيين التملّص من هذه العواقب وهذه الاتهامات بمحاولة التعبير عن رأيهم عن طريق إسقاط انتقاداتهم على شخصيات ودول افتراضية، محاولين عدم ذكر إسرائيل بشكل مباشر


فتهمة معاداة السامية قد تلتصق بهم بمجرد تعبيرهم عن رأيهم على مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال مشاركة ما يحدث في الأراضي المحتلة من انتهاكات ضد الفلسطينيين من قبل جيش الاحتلال. أو حتى من خلال عمل فني يجسد القمع الذي يلحق بالفلسطينيين، كما حدث العام الماضي في المعرض العالمي «دوكومنتا» في مدينة كاسل، حين اعتبرت اللوحة العملاقة «عدالة الشعب» (People's Justice) أنها معادية للسامية، وهو عمل يعود للمجموعة الفنية الإندونيسية «تارينغ بادي». نجح المنتقدون، وفي ألمانيا هؤلاء دائماً يفوزون في مثل هذه المعارك، فتمّت تغطية العمل الفني في 20 حزيران 2022. وفي المعرض ذاته جاءت اعتراضات على تسمية أحد المشاريع الفنية المعروضة، إذ تم انتقاد عنوان «غرنيكا غزة»، الذي يعود لمشروع فني للفنان محمد الحواجري، يحاكي فيه هجمات الجيش الإسرائيلي على المناطق الفلسطينية، ويعود سبب انتقاد العنوان لكونه مأخوذاً من اسم واحدة من أشهر لوحات الفنان بابلو بيكاسو، والتي صور فيها بيكاسو عام 1937 تدمير قوات نازية لمدينة غرنيكا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية.
أيضاً في عام 2019 ألغي عدد من الفعاليات الثقافية الفلسطينية في برلين، بسبب الضغوط السياسية من قبل الحكومة الإسرائيلية، وبعض المنظمات المؤيدة لإسرائيل. وفي عام 2020، قررت مدينة ميونيخ إلغاء حفل لفرقة موسيقية فلسطينية، بعد ضغوط مارستها منظمات مؤيدة لإسرائيل، اعتبرت أن هذا الحدث يمثل دعماً لـ«حملة المقاطعة» (BDS). وعلى سبيل المثال أيضاً، وجدت مجموعة واسعة من الأكاديميّين، والفنّانين، وأمناء المتاحف، وغيرهم، نفسها عرضة لمنظومة من التحقيقات السياسيّة، والإدراج على القوائم السوداء والإقصاء، بسبب تأييدها لفلسطين وانتقادها لإسرائيل. وتتوسّع هذه القائمة في ألمانيا منذ صدور القرار البرلمانيّ عام 2019، الّذي يتمحور في جوهره حول استهداف ناقدي سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيّين.
إنّ تهمة معاداة السامية هي ذريعة تستخدم لإسكات أي صوت ناقد لإسرائيل، وسياسات حكوماتها وانتهاكاتها المتكررة يومياً ضد الفلسطينيين. والمتضرر الأكبر من سياسة الإسكات هذه، هو الفلسطيني ومن يناصره أو يدعمه. لذلك يحاول الكثير من الفلسطينيين التملص من هذه العواقب وهذه الاتهامات بمحاولة التعبير عن رأيهم عن طريق إسقاط انتقاداتهم على شخصيات ودول افتراضية، محاولين عدم ذكر إسرائيل بشكل مباشر، كي لا يستخدم هذا الانتقاد كإثبات ضدهم في حال مقاضاتهم بتهمة «معاداة السامية».
ومن الجدير بالذكر أنه في ألمانيا يُتعامل مع موضوع «إسرائيل» وانتقادها بأنه من المحرمات في السياسة والحياة الثقافية والاجتماعية الألمانية، إلى درجة تولّد الخوف لدى الرأي العام من التعامل مع هذه القضية، أو حتى مجرد مناقشتها. وربما أن سبب ذلك معروف للجميع، وهو تاريخ ألمانيا مع المحرقة. فالدولة إلى الآن وبكل مؤسساتها تحاول التكفير عن جريمة الهولوكوست وذلك بتوفير الدعم والحماية المطلقة وغير المشروطة لإسرائيل، وهو ما تؤكده كل أحزاب الدولة من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، متجاهلة تماماً الممارسات القمعية وعمليات القتل والتهجير والتدمير التي تحدث يومياً بحق الفلسطينيين.
يشعر العديد من الفلسطينيين، ناشطين، فنانين، وحتى صحافيين، بالقلق بشأن حالات منع النشاطات الثقافية الفلسطينية، ويرون فيها محاولة لتقييد حرية التعبير وقمع صوت الشعب الفلسطيني، وهو ما يخدم إسرائيل أكثر وأكثر في تقديم روايتها عن الصراع للرأي العام الغربي، وبالتالي لعب دور الضحية في هذا الصراع. وتعدّ هذه الإجراءات جزءاً من الحملة العالمية التي تشنها بعض الدول والمنظمات ضد النشاطات الفلسطينية والحركة الداعمة لحقوق الإنسان في فلسطين.
من المهم جداً أن يعمل المجتمع الدولي من أجل تحقيق السلام والعدالة في المنطقة، ودعم حقوق الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال والتمييز ضدهم. ولكن، في المقابل، يجب على هذا المجتمع نفسه أن يكفل بأن تكون حرية التعبير والتجمع والمشاركة السياسية متاحة للجميع، بمن فيهم الفلسطينيون في ألمانيا.