ارتفعت، نهاية نيسان، حدّة الاشتباكات بين القوات المسلّحة السودانية وقوات «الدعم السريع»، وسط تحذيرات (رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك، 29 نيسان) من أن الصراع قد يتحوّل إلى كابوس للعالم أجمع، ولا سيما أنه «يشبه حرباً بين جيشَين مدرّبَين ومسلّحَين جيّداً». وعلى رغم تحذير حمدوك الخطير والدالّ، وبمعزل عن دوافعه، فإن الأطراف الدولية المعنيّة بالأزمة السودانية، ولا سيما الولايات المتحدة والصين وروسيا، لا تكترث كثيراً في خضمّ منافساتها وتناقضات تصوّراتها، لخطر سقوط الدولة السودانية نفسها؛ إذ ينصبّ جلّ اهتمامها على حماية مصالحها في ظلّ الوضع المتدهور الراهن، والذي تُفاقم هذه المنافسات حدّته. وتبدو مقاربة موسكو وواشنطن، للأزمة، أقرب إلى المراقبة ريثما تكتمل حلقات المشهد، ويبدأ التعامل لاحقاً مع الوضع المستجدّ من موقع أكثر قدرة على الضغط على السودان، وتحقيق مكاسب آنية ومجانية تقريباً، من دون المجازفة بخسائر سياسية واقتصادية تترتّب على الانخراط التنافسي في النزاع ومساعي تسويته.
الولايات المتحدة والسودان: إدارة الوساطات
حضرت واشنطن في أغلب جهود تسوية الأزمة في السودان، وذلك عبر تعزيز الاتصالات مع جارة الأخير في الشمال، وإعادة تفعيل جهود «الرباعية» (وإنْ عبر بيان هزيل مشترك في 28 نيسان)، فضلاً عن التواصل المباشر مع أطراف الأزمة المحلّيين. لكن يتّضح، بشكل عام، جنوح الولايات المتحدة إلى الاكتفاء بدور إدارة هذه التدخّلات والجهود بأقلّ تكلفة ممكنة. وعلى سبيل المثال، فقد رحّب البيان المُشار إليه باستعداد الأطراف للحوار من أجل تمديد وقف الأعمال العدائية، وضمان عدم إعاقة وصول الإغاثة الإنسانية، كمرحلة ممهِّدة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، وتمكين الترتيبات الإنسانية، ومن ثمّ تطوير خطّة إنهاء التصعيد التي وضعها بيان «الاتحاد الأفريقي» (20 نيسان)، وأيّدتها «جامعة الدول العربية» والاتحاد الأوروبي و«الترويكا» وشركاء السودان الآخرون.
واتّضح من تواصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، مع رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في أوقات متقاربة، حرْص واشنطن على إبداء وقوفها على مسافة واحدة من الطرفَين، وكذلك استمرار نهج «الاحتواء المزدوج» لكلَيهما، على رغم تعارض هذا السلوك مع آخر سابق لواشنطن في أزمات مشابهة، وأبرزها الأزمة الليبية. أيضاً، لم تتبلور بعد تأثيرات تكوين الخارجية الأميركية «لقوة مهامّ الصراع العسكري في السودان» (18 نيسان)، والمكلّفة بالإشراف على تخطيط وإدارة لوجيستيات الوزارة في ما يتعلّق بالأزمة هناك، في مؤشّر إلى تباطؤ الاستجابة الأميركية عن المستويات المفترَضة بكثير. ولربّما يعود هذا التباطؤ إلى حرص واشنطن على استكمال إجلاء جميع مواطنيها من السودان، كأولوية قبل بذل ضغوط أكبر على أطراف الأزمة، سواء عبر سفيرها في الخرطوم، جون جودفري، الذي «تتوفّر لديه جميع وسائل التواصل مع هذه الأطراف»، بحسب مسؤولين سابقين في الإدارة الأميركية، أو عبر السماح بتدخّلات خارجية أكبر لمصلحة التسوية. إلّا أنه يُرجَّح أن تتغيّر المقاربة الأميركية بشكل كبير مطلع أيار، مع إطلاق واشنطن (29 نيسان) أوّل عملية إجلاء كبرى في السودان لنقل المواطنين الأميركيين «ومواطنين من جنسيات الحلفاء ودول شريكة في بورتسودان»، بعد «مفاوضات مكثّفة قامت بها الولايات المتحدة» بدعمٍ من شركائها الإقليميين والدوليين، بحسب بيان الخارجية الأميركية.
يُرجَّح أن تنحاز روسيا والولايات المتحدة إلى حماية مصالحهما والتمسّك بمواقعهما في قلب الصراع وتغذيته


التمدّد الروسي: مقامرة محسوبة؟
حضر السودان في بؤرة الاهتمام الروسي المتزايد بالقارّة الأفريقية؛ إذ كانت الخرطوم من أهمّ محطّات توقّف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في القارة (شباط الفائت)، حيث شملت أجندته مناقشة الحاجة إلى التعاون داخل المؤسّسات الدولية، وإصلاح مجلس الأمن، وبناء عالم متعدّد الأقطاب. وجاءت تلك الزيارة في وقت استقبلت فيه العاصمة السودانية مبعوثين من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول أخرى، وقد نُظر إليها بوصفها استكمالاً لحلقة اهتمام روسيا بإقليم الساحل (خصوصاً بالنظر إلى توقّفه أيضاً في مالي)، وجهد موسكو الحثيث، منذ أعوام، لإيجاد موطئ قدم لها في البحر الأحمر، وهذه المرّة في بورتسودان بعد رفض متكرّر من جيبوتي ومراوغة غير محسومة من قِبل إريتريا. وعلى رغم عدم إعلان الحكومتَين السودانية والروسية أيّ تفاصيل بخصوص الاتفاق المفترَض، فإن وسائل إعلام غربية ذكرت أن «الاتفاق، الذي سيسري لمدة 25 عاماً، سيسمح لروسيا بإقامة قاعدة بحرية قرب بورتسودان واحتفاظها بـ300 جندي وأربع سفن حربية، من بينها واحدة تعمل بالطاقة النووية»، ما سيمكّنها من الاستخدام المرن والعملي للبحر الأحمر والمحيط الهندي. وفي المقابل، سيتمكّن السودان من شراء الأسلحة والمعدّات العسكرية من روسيا، والفكاك من قيد العقوبات الغربية، وتنشيط الأعمال والمشروعات مع الشركات الروسية، ولا سيما في قطاعات النفط والتعدين والزراعة.
كذلك، بدا حضور شركة الأمن الروسية «فاغنر» في قلب المناقشات، منطقيّاً، في ظلّ طرْح موسكو خططاً للاستثمار في استخراج الذهب ومعادن أخرى في السودان، ستكون بحاجة إلى قوات أمنية لحمايتها، علماً أن «فاغنر» تتمتّع بقدرة هائلة في هذا المجال في ضوء سوابق أعمالها في القارة، وتعاونها الوثيق مع قوات «الدعم السريع» داخل السودان وخارجه. وعزّز وزير الخارجية الروسي، خلال وجوده في الأمم المتحدة، تلك التكهّنات، بتصريحات (25 نيسان) اعتبر فيها أن من حقّ حكومة السودان (من دون أن يحدّد طرفاً بعينه) الاستفادة من خدمات «فاغنر». ويُجمع مراقبون على أن وجود الشركة الأمنية الروسية في السودان يُعدّ أحد أركان السياسة الخارجية الروسية في أفريقيا، حيث تستهدف، بحسب بعض هؤلاء، تيسير وصول موسكو إلى موارد السودان (ثالث أكبر منتج للذهب في القارة) «لتستخدمها في تمويل الحرب في أوكرانيا».
على أيّ حال، يبدو الموقف الروسي من الأزمة السودانية محسوباً بدقّة، حتى في حال تدهور الأمور ورجوع قوات «الدعم السريع» إلى نقاط ارتكاز في المناطق الحدودية الغربية؛ إذ تضْمن صلات موسكو بـ«حميدتي» وقواته استمرار تمرير الموارد المعدنية الهامّة إلى موسكو، في ضوء صعوبة حصول الأخيرة بالفعل على قاعدة بحرية قرب بورتسودان، وذلك لتعقيدات المصالح الأميركية والسعودية في البحر الأحمر، وغموض دور الإمارات المستقبلي في ترتيبات الأمن في هذا الإقليم الفرعي، البالغ الحيوية للتجارة العالمية.

واشنطن و«فاغنر»: الحرب بالوكالة
يمكن ملاحظة الاستقطاب الأميركي - الروسي في الأزمة السودانية منذ مطلع العام الجاري، في ظلّ تحيّزات مقاربات الدولتَين لمسارات المرحلة الانتقالية. وركنت الولايات المتحدة إلى دبلوماسية تقليدية عنوانها احتواء تناقضات الشأن السوداني، ودفْع مختلف الأطراف إلى حافة الصدام المباشر من دون تقديم حلول حاسمة، ومن ثمّ طرْح تسويات أمر واقع تنتقص من مقدّرات أطراف الأزمة كافة، وتضبط ارتباطاتها الخارجية سواء مع الدول الحليفة أم المنافسة، وتطيل حالة الهشاشة في الدولة السودانية. وفي المقابل، سعت روسيا إلى مدّ سياساتها في الساحل ووسط أفريقيا، حيث حقّقت نجاحاً مهمّاً في العامَين الأخيرَين على الأقلّ، إلى السودان، سواء عبر شراكات عسكرية وأمنية ناجعة أم الانخراط في أنشطة اقتصادية مربحة في مناطق الأزمات (على امتداد الحدود بين جمهورية أفريقيا الوسطى مع السودان).
لكنّ محلّلين يعتقدون أن روسيا قد تَخرج خاسرة من الأزمة الحالية في السودان، بالنظر إلى إمكانية استغلال الغرب الوضع في إضعاف نفوذها في هذا البلد وربّما في القارّة الأفريقية. وعلى سبيل المثال، فإن غلق المجال الجوّي أمام الطيران الدولي سيحرم موسكو من معبرها الهامّ إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، ويلحق ضرراً جيواستراتيجياً خطيراً بمجمل سياسات روسيا في أفريقيا (تحديداً في الساحل ووسط أفريقيا). كذلك، يُرجَّح تسليط ضغط غربي على الخرطوم لقطع اتصالاتها مع بانجي، «ما سيمثّل ضربة كبرى لسياسة موسكو في وسط أفريقيا لأن الطرق البديلة مكلفة للغاية». يُضاف إلى ما تَقدّم، أن روسيا لا تستطيع مجاراة السعودية والإمارات في موازنة سياساتهما ومصالحهما في السودان بدعم مالي سخي، كما لا تستطيع مجاراة مصر في قدرات الدعم العسكري للجيش السوداني، بحسب هذه التحليلات («نيوزويك»، 27 نيسان).

ماذا بعد؟
تراقب واشنطن وموسكو عن كثب، ومن دون التدخّل المتوقّع، الشأن السوداني وتطوّراته، وربّما توجّه البلاد ككلّ نحو مستويات جديدة من السقوط في فخّ «الدولة الفاشلة». ومع تراجع حظوظ الحسم (في ظلّ هرولة القوى الداعمة لـ«حميدتي» خصوصاً لإطالة أمد الصراع والدفاع عن مصالحها حتى اللحظات الأخيرة)، يُرجَّح أن تنحاز روسيا والولايات المتحدة، لدوافع ومنطلقات مختلفة، إلى حماية مصالحهما والتمسّك بمواقعهما في قلب الصراع وتغذيته، بدلاً من الضغط للتوصّل إلى تسوية كانت ممكنة في الأيام الأولى من نشوبه.