من حسن حظ «العاشقين» أنها بدأت في لحظات القوة، ومن حسن حظ الجمهور أن صوتها خفت ولم ينته. بدأت الفرقة الأشهر في التاريخ الفلسطيني عام 1977، في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين. كانت عائلة الهباش، إخوة ستة من عائلة الهباش، 3 شبان هم الطفل محمد الذي كان يغني ويلقي الأشعار والمواويل، وخالد وخليل، عازفان، 3 فتيات، هن فاطمة وآمنة وعائشة، مغنيات كورال، شكّلوا معاً فرقة تغني للوطن السليب. التقط الستة، موسيقار كبير اسمه حسين نازك، عرفه الناس في أكثر من مناسبة، منها برنامج الأطفال الشهير «افتح يا سمسم»، وعرفوه بألحان مسلسل «بأم عيني» ومسلسل «عز الدين القسام» من إنتاج دائرة الثقافة والفنون في منظمة التحرير الفلسطينية. كان اللقاء بين حسين نازك والإخوة الهباش، حين كانت دائرة الثقافة في المنظمة تعمل على إنتاج مسرحية «المؤسسة الوطنية للجنون» من تأليف الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم، وقد تكلّف الشاعر الفلسطيني الراحل أيضاً أحمد دحبور، بكتابة أغانٍ للمسرحية، كانت من ضمنها الأغنية الشهيرة «والله لازرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر»، ليضع الألحان لها نازك.

تلك العلاقة استمرت، وكانت «فرقة أغاني العاشقين» التي تحوّلت مع الوقت إلى «فرقة العاشقين»، وكان لهذه الفرقة من اسمها نصيب، فعلاقة أفرادها مع القضية كانت أشبه بالعشق، وهي كذلك حتى اليوم، على الرغم من تشتتهم، إذ لم يتوقف واحدهم عن الوفاء للقضية التي غنوا من أجلها، ومتّنوا علاقة الملايين من العرب بفلسطين، فوصول الأغنية كان أسرع بكثير من المجلات والجرائد والكتب التي كانت تصدرها منظمة التحرير وفصائلها، والأغنية بطبيعتها تلقى إقبالاً واسعاً لدى الجمهور لسهولة تلقيها، فكانت «اشهد يا عالم علينا وع بيروت» بمثابة الهوية الدالة على ما حدث في بيروت عام 1982، حين اجتاحت قوات «البغي والطغيان» بيروت. في هذه الأغنية وغيرها من أغاني الفرقة التي وضع كلماتها دحبور وصادق الحسيني ويوسف الحسون، وغيرهم، كانت الحكاية الفلسطينية بماضيها وحاضرها وربما مستقبلها، تقال بأصوات يعرفها الناس، ويسمعونها، ويلجؤون إلى أداء أغانيها للتعبير عن الانتماء إلى القضية الأبرز عربياً.
«العاشقين» تشبه الضمير، وتشبه القلب الذي يتوكّأ عليه اليأس لينتفض ويتذكر أن الماضي المجيد، يمكن له أن يُنهض الحاضر من موته السريري، بتذكيره للناس، أن فلسطين البداية والنهاية


صحيح أن الفرقة لم يُعلن عن توقفها بشكل نهائي، على الرغم من توقفها تماماً، إلا أنها تحضر في كل المواقف الوطنية بلا منازع، إذ لم ينازعها على مكانتها أحد حتى الآن، حتى مع ظهور أغان وفرق أخرى أكثر مواكبة للعصر الحديث، إلا أن «العاشقين» تشبه الضمير، وتشبه القلب الذي يتوكّأ عليه اليأس لينتفض ويتذكر أن الماضي المجيد، يمكن له أن يُنهض الحاضر من موته السريري، بتذكيره للناس، أن فلسطين البداية والنهاية. ومن أجل هذه الفكرة مثلاً، لم يتوقف محمد الهباش عن تقديم الجديد، فأسّس فرقة «جذور العاشقين» عام 1987، وتوقفت بعد حوالي ست سنوات، وساهم بإصدار ألبومات بعد معركة جنين، يمكن الاستماع إليها اليوم، فتحيي روحية تجعل المتلقّي يستعيد تلك الروحية التي حملت المعركة الأشهر في الانتفاضة الثانية، ومثله مثلاً حسين نازك، الذي تصدى قبل أعوام لمشروع إحياء التراث الفلسطيني، وأحمد دحبور الذي شارك في فعاليات عديدة، ألقى فيها الشعر، أو كتب مقالات تذكّر بما كان.
هذه الفرقة التي تشبه فلسطين كثيراً ببعدها العربي، كان من أعمدتها الأساسيين العديد من العرب الذين غنوا فيها وعزفوا ورقصوا، منهم العربي اللبناني حسين منذر المغني الأول في الفرقة، الذي ما إن يصدح بـ«اشهد يا عالم علينا وع بيروت» إلا وتذكرنا حركة جسده، وتفاعله مع الثورة المنطلقة من صوته، كذلك العربي السوري ميزر مارديني الراقص الأول في الفرقة والمصمم والمدرب على رقصاتها التي استعارت وطوّرت في الرقصات التراثية الفلسطينية، والتي أصبحت اليوم المدرسة الأولى لمعظم الفرق الفلسطينية التراثية، فقد كان من ميزات ما فعله مارديني، الحفاظ على الأصالة مع إدخال السحر في الأداء على المسرح، حتى باللباس الذي تنقّل بين العسكري، أسوة بالفدائيين، وبين الزي التراثي الفلسطيني للنساء والرجال، كما فعلت كل الأغاني، بأن حافظت على الأصالة، واحترام التراث، وتطويره من دون العبث فيه بمسميات غريبة لا تشبهه ولا تشبه شعب فلسطين وشعوب بلاد الشام.
لم تعد فرقة «العاشقين» موجودة، لكنّ الشكر لها، كلّ الشكر، فقد قدّمت لنا ما يمكن أن نقدّمه للأجيال القادمة، لا للاستماع والاستمتاع فقط، بل لنفهّم الأجيال اللاحقة قصة فلسطين على الأقل، كي تبقى محفوظة في الصدور. فالشكر والتحية إلى أعضاء «العاشقين» الذين حفظوا فلسطين، وحفّظونا حكايتها.