غرفة مظلمةٌ يتصدّرها مشهد لثلاجة تنخز برودتها عظمك، ورقم معلّق بأخمص القدم، هي آخر الصور التي ستنحفر في ذهنك، وأنت تغادر معرض «نتنفس حرية» الذي أقامته الحركة الوطنية الأسيرة في قطاع غزة على مدار أيام الأسبوع الماضي.قاعة منتجع «الشاليهات» الفسيحة، التي ازدحمت بآلاف الزائرين، أعطت فرصة نادرة للأهالي، لمعايشة ما هو أكثر من المعاناة اليومية التي يحياها نحو 4500 أسير في سجون الاحتلال. في زوايا المعرض، تحضر الأشواق والهواجس والأمنيات في شكل لوحات فنية ومنحوتات ورسائل مكتوبة بعث بها الأسرى أو هرّبوها بعناءٍ شديد. أبو الهيثم، وزوجته ريم، وأبناؤه محمد وهيثم، وهيا وهنية التي أمست عروساً بعدما فارقت والدها وهي في سنّ السادسة من العمر، وزفّت أخيراً إلى عريسها نائل. سيعيش من حضر المعرض خارج جدران الزمان والمكان، وهم يقرأون ما خطّه الأب المغيّب بقلم الحبر الأزرق على خرق الورق لزوجته، يسأل بشغف وفضول بالغين، عن أدقّ التفاصيل: عمل العريس وأخلاقه وعائلته ومدى انسجام ابنته معه، عن مراسم الزفاف ودراسة الأبناء، عمّن حضر الفرح من الأقارب والأصدقاء ومَن تغيّب، ثم ستغيب طويلاً، وأنت تقرأ بعين القلب رد أمّ الهيثم على زوجها، الأشواق والفقد، عبء المسؤولية والتظاهر بالقوة والصبر، وأكثر من ذلك، الإخلاص والدفء العائلي الذي لم تبرّده غياهب السجون.

المعرض الذي أقامته الحركة الأسيرة بالتزامن مع يوم الأسير الفلسطيني الذي يوافق 17 نيسان من كل عام، شاركت فيه مختلف المؤسسات الأهلية والرسمية التي تعنى بشؤون الأسرى، ضمّ في زواياه، وفق ما أوضحت نور سليم، وهي منسقة الحدث، زاويا فنية تضمنت لوحات ومجسمات صنعها فنانون فلسطينيون وأسرى محررون، ومشاهد تمثيلية تعرض طوال أيامه الستة، تعكس تفاصيل الحياة اليومية في السجون. ضم المعرض أيضاً، بحسب ما تشرح سليم لـ«الأحبار»، محاكاةً «لمنام الأسرى على سرير الأسر "البورش"». وبالإضافة إلى رحلة النقل عبر «البوسطة» القاسية، أقيمت ندوات وورش عمل، وزاوية علمية يعرض فيها الإنتاج الثقافي للأسرى من كتب وروايات ومؤلفات، وزاوية مرئية وأخرى إعلامية، وعروض مسرحية، وزاوية أخرى للتراث، يعرض فيها «ما أنتجه الأسرى في سجونهم من ملابس أهدوها لأبنائهم».

الأسير ماجد أبو القمبز، المحكوم 19 عاماً والمعتقل منذ عام 2006، هو واحدٌ من هؤلاء الذين استطاعت بعض قطع الملابس التي صنعها لأبنائه الفكاك من شباك السجون، ووصلت إلى جدران المعرض، كُتب إلى جانب معروضاته المصنوعة ببدائية واتقان وحب كبيرين:
«قد يرى البعض تلك القطع المعلقة مجرد مقصوصات قماشية، وقد لا يلقي لها بالاً، ولكننا اليوم نعرض فستاناً صغيراً وثوب صلاة، لصبية أصبح عمرها 16 عاماً (...) صاحب اللمسات قام بتفصيل ما ترون لابنته الطفلة مستخدماً كسوة قماش وقتما كانت في ربيع الـ 6 سنوات».
«نتنفس حرية» واحد من المعارض النادرة، الذي يتابعه الأسرى في سجونهم عن كثب، وقد أبدوا، وفق المنظمين، إعجابهم في ما حققه من حضور، استطاع أن يوصل حياتهم إلى كل بيت، يقول حازم أبو حسنين، وهو الناطق باسم مكتب إعلام الأسرى، إن المعرض استطاع أن يجمع مختلف ألوان الطيف الفلسطيني، بمعزل عن الخلافات الحزبية، لتسليط الضوء على قضية الأسرى. أما الجديد والمميز، وفق ما يقول أبو حسنين لـ«الأخبار»، فهو «عرضٌ لمشاهد حصرية، استطاع الأسرى تصويرها في داخل الزنازين، نقلوا من خلالها التفاصيل الدقيقة لحياتهم، وقد أعددنا لها غرفة خاصة لعرضها، بعيداً عن كاميرات الإعلام حفاظاً على أمن الأسرى».

في غرفة مظلمة، تتوسطها شاشة كبيرة، يحبس عشرات الحضور أنفاسهم، وهم يشاهدون لأول مرة مقاطع حية يظهر فيها الأسرى في سجون هداريم والنقب ونفحة، من وسط العتمة، يعلق الأسير المحرر أحمد القدرة، وهو مدير مكتب إعلام الأسرى، على ما تنقله الشاشة من مشاهد أسير يضحك بملء فيه، وهو يتنقل بحذرٍ مثل مراسلٍ صحافي استقصائي، بين أقسام السجن، مجموعة من الأسرى يحيطون بزميل لهم، يرقبون ردة فعله وقد رتّبت زوجته هدية مفاجأة له في عيد ميلاده، سعادة غامرة ونكات سمجة وأخرى لذيذة من زملائه على «المشهد الرومانسي» تثير مشاعر مختلطة وصادمة. يعلّق عليها القدرة بالقول: «لا يمتلك الأسرى سوى إظهار أعلى مستويات الفرح، الضحك في الأسر هو خط الدفاع الأول، والسلاح الذي يقهر فيه الأسرى سجانيهم».

مشهد آخر لا يقل عما سبقه دهشة، يقف الأسير الشيف، وقد أعدّ سكيناً، حيث ممنوع على الأسرى اقتناء السكاكين، من بقايا بعض المعلبات المعدنية، حوله يتجمع زملاء القسم، وهم يرقبون خطوات إعداد طبق المقلوبة، تتلاشى الابتسامة، وتحضر الحسرة حينما تظهر، لأول مرة أيضاً، مشاهد حصرية للأسير المريض بسام السايح، إلى جانبه شقيقه أمجد الذي ألّف عقب رحيله كتاباً حمل عنوان «بسمة وداع». يشرح القدرة: «الإهمال الطبي سياسة إسرائيلية قذرة، من يعاني من ألم في أسنانه مثلاً، يتطلب الكشف الطبي دون العلاج بعد تقديم الطلب لمصلحة إدارة السجون خمسة أشهر كي يعرض على الأطباء في عيادة/ مسلخ سجن الرملة، من تكسر يده، سينتظر عاماً كاملاً أو أكثر ليحظى بصورة أشعة».
قضى بسام السايح، الذي كان قد أصيب بسرطان العظام في عام 2015، بعد أربع سنوات من اعتقاله. أعوام قضاها حتى استشهاده في أيلول 2019، لم يحظ فيها بأيّ رعاية طبية حقيقية، ابتسامة بسام وهو بين رفاقه الأسرى آخر المشاهد التي ستقرأها عينك، قبل ثلاجة الموتى ومقابر الأرقام، ورسالة ممهورة بتوقيع الأسرى: «لا نريد أن ننتهي جثثاً باردة وأرقاماً صماء».