مع انتهاء عطلة «الكنيست» الشتوية بعد غدٍ الأحد، وعودة أعضائه إلى الالتئام، يعود التجاذب الداخلي الإسرائيلي ليصبح على أشدّه، بين دعاة «الإصلاح القضائي» من جهة، ومناوئيه من جهة أخرى. وعلى رغم استحقاق الموازنة الداهم، والذي يعني الفشلُ في حسمه قبل نهاية أيار، حتميّة التوجّه إلى انتخابات سادسة مبكرة، إلّا أن أساطين الائتلاف لا ينوون التخلّي عن خطّة إضعاف القضاء، بل يعتزمون، من أجل إقرارها، تعميق ابتزازهم لبنيامين نتنياهو الذي يتعاظم الخطر المحدق بحكومته مع مثول تحدّي الموازنة أمامه. أمّا في الشارع، فيتواصل الاستقطاب ويتوسّع، في ظلّ قرار اليمين مواجهة التظاهرة بالتظاهرة، وحشده أنصاره مساء أمس تحت شعار «تظاهرة المليون»

يعود السياسيون الإسرائيليون إلى أروقة «الكنيست» بعد غدٍ الأحد، مع انتهاء العطلة الشتوية رسمياً، والتي سبقتها تظاهرات ضخمة قادها المعسكر المعارض ضدّ ما يسمّيه «الانقلاب القضائي». وفي وقت استؤنفت فيه المفاوضات بين المعارضة والائتلاف أمس، في مقرّ الرئيس يتسحاق هرتسوغ، من دون أن يَظهر إلى الآن ما يشي بأنها ستُحقّق تقدّماً، تضع الحكومة تمرير قانون ميزانية الدولة للعام 2023 - 2024 على رأس الأولويات؛ إذ إن عدم تمريره قبيل نهاية أيار المقبل، يعني أوتوماتيكياً حلّ «الكنيست» والذهاب إلى انتخابات سادسة مبكرة. وعلى هذا الأساس، فإن التشريعات المندرجة ضمن «خطّة الإصلاح القضائي» قد توضع على الرفّ، إلى حين إقرار الميزانية. وطبقاً لما ذكره موقع «واينت» العبري، فإنه قُبيل دخول «الكنيست» في العطلة الشتوية، مرّ قانون الميزانية بالقراءة الأولى، فيما يجري تداوله حالياً في لجنة المالية بغية تحضيره للتصويت عليه في الهيئة العامة بالقراءتَين الثانية والثالثة، وسط ضغوطات سياسية تمارسها مركّبات الائتلاف لتنفيذ الاتفاقيات التي كانت وقّعتها مع «الليكود»، عشيّة تنصيب حكومة بنيامين نتنياهو.
على المقلب الآخر، تستمرّ المعارضة في تذكير الائتلاف بوعوده الانتخابية، ومن ضمنها خفض تكاليف المعيشة، ومعالجة أزمة السكن، والتعليم المجاني للأطفال (من 0 إلى 3 سنوات)، وغيرها من القضايا التي لا تندرج في قانون الميزانية المنويّ التصويت عليه، والذي يعطي الأولوية لتوسيع المستوطنات، وتقوية المجتمع «الحريدي». وبموازاة تلك الضغوط، تتسلّط على نتنياهو ضغوط معاكسة لا تقلّ ثقلاً، من جانب حلفائه في الائتلاف، خصوصاً في ما يتّصل بـ«قانون التجنيد» الذي سيعفي «الحريديم» رسمياً من الخدمة العسكرية، وينظّم أجور طلبة المدارس والمعاهد الدينية. ومع ذلك، فإن النقاشات الجارية بشأن القانون تشي بأن حزب «يهودية التوراة» «الحريدي» لن يطالب بإقرار إعفاء قاعدته الحزبية من التجنيد قُبيل التصويت على الميزانية، وإنّما سيؤجّل مطلبه إلى وقت لاحق، لا سيما وأنه أثار جدلاً حادّاً بين الإسرائيليين، فيما لا يُعرف حتى الآن ما إن كان حزب «شاس»، «الحريدي» هو الآخر، سيتمسّك بتمرير القانون كشرط للتصويت على الميزانية، أم لا.
أمّا بالنسبة إلى وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، فيبدو ضيق الوقت المتاح للتصويت على قانون الميزانية، مثالياً بالنسبة إليه لابتزاز نتنياهو، وجعل الاتفاقيات الائتلافية التي وُقّعت بين «عوتسماه يهوديت» و«الليكود» قُبيل تنصيب الحكومة، أمراً واقعاً. وفي هذا السياق، من المتوقّع، طبقاً لـ«القناة 12» الإسرائيلية، أن توافق الحكومة على مطلب بن غفير تنفيذ «قانون أساس: القومية» - وجعله قانوناً ملزماً؛ إذ طالب الوزير المتطرّف بإعطاء الأولوية للمكوّن اليهودي والأيديولوجيا الصهيونية لدى اتّخاذ القرارات الحكومية، ما يعني عملياً تفضيل اليهود، وخصوصاً منهم خرّيجي مؤسّسة الجيش، في عدد من المجالات. ومن بين التطبيقات المتوقّعة لذلك القانون، قيام وزير النقب والجليل، يتسحاق فسرلوف، وهو من «عوتسماه يهوديت» الذي يقوده بن غفير نفسه، بتعزيز عمليات تهويد النقب والجليل، وتكثيف البناء الاستيطاني، وتقييم طلبات الراغبين في السكن في المستوطنات على أساس كونهم يهوداً صهاينة من عدمه.
لا ينوي أعضاء الائتلاف الرئيسون التخلّي عن خطّة «الإصلاح القضائي» لصالح إقرار الميزانية


باختصار، يسعى بن غفير إلى تحويل «قانون القومية»، الذي ما فتئ النقاش مشتعلاً بخصوص مكانته وحدود تأثيره على غير اليهود في الكيان وفي مقدّمتهم فلسطينيّو الـ48، إلى أمر واقع، من خلال تقديم مصالح اليهود دون سواها، وجهل الصهيونية قيمة عليا حاسمة ومحدِّدة لوجهة القرارات الحكومية. وفي هذا الإطار، أصدر «عوتسماه يهوديت» بياناً أكد فيه أن «الصهيونية ستكون قيمة موجِّهة وحاسمة في كل الأنشطة الوزارية والحكومية»، وذلك انطلاقاً من أن «المبادرة (التي دفع بها الحزب) تُركّز على القيم الصهيونية، طبقاً لقانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي»، مضيفاً أنه «ستكون هذه القيم حاسمة في تصميم السياسات الإدارية العامة، والسياسة الداخلية والخارجية، وفي عملية التشريع، وفي أنشطة الحكومة في كلّ أفرعها ومكاتبها». من جهته، علّق كلّ من بن غفير وفسرلوف على قرار الحكومة المتوقّع بالخصوص، بالقول إنه «قرار تاريخي سيضع الصهيونية قبل أيّ شيء. ستُمكّننا هذه المبادرة من إعطاء الأولوية للمقاتلين وخرّيجي الجيش، وتقوية وتعزيز الاستيطان في النقب والجليل، وكذلك تعزيز التعليم والتربية بالأسس والقيم الصهيونية». في المقابل، رأى زعيم المعارضة، ورئيس حزب «يش عتيد»، يائير لبيد، أن «عصابة عنصريّي بن غفير تريد تمرير قرار حكومي (يوم الأحد المقبل) ضدّ الدروز رفاقنا في السلاح، وضدّ المهاجرين من روسيا، وضدّ المواطنين العرب في إسرائيل، بمن فيهم مَن يخدمون في الجيش. إنها ليست قومية ولا صهيونية ولا حتى يهودية. إنها عنصرية صارخة، وهي هدية لأنصار حركة المقاطعة»، داعياً نتنياهو إلى «وقف هذا الجنون».
إلى جانب ما تَقدّم، لا ينوي أعضاء الائتلاف الرئيسون، وفي مقدّمتهم وزير القضاء ياريف ليفين، ووزير المالية والوزير في وزارة الأمن بتسلئيل سموترتش، وبن غفير، التخلّي عن خطّة «الإصلاح القضائي» لصالح إقرار الميزانية؛ إذ نظّم هؤلاء وأنصارهم من المنظّمات الاستيطانية الصهيونية، مساء أمس، تظاهرة قبالة مبنى «الكنيست» في مدينة القدس المحتلّة، تلبيةً لدعوة وُجّهت منذ أسبوع لحشد أنصار اليمين تحت شعار «تظاهرة المليون». وأعلنت التظاهرة التي شارك فيها عشرات آلاف الإسرائيليين، ودعت إليها منظّمات من قَبيل «إم ترتسو» (إذا أردتم) و«عاد كان» (حتى هُنا أو عند هذا الحد) و«ريفنوت عخشاف» (سيادة الآن)، تأييد «الإصلاحات» التي تدفع بها حكومة نتنياهو بغية إضعاف منظومة القضاء، وجعل الأخيرة ذات مكانة أدنى من السلطة التشريعية.
وفي وقت سابق، حاول مُنظّمو التظاهرة إقناع حاخامات «الحريديم» بالانضمام إلى «الجوقة»، ليستجيب عشرات منهم بالفعل، غير أن كبارهم امتنعوا عن ذلك، ورفضوا التأثير على طلاب المعاهد الدينية اليهودية، وحضّهم على المشاركة في الفعالية. وأجمع حاخامات الأحزاب «الحريدية»، «شاس» و«يهودية التوارة» و«ديغيل هتوراة»، على الوقوف على الحياد، لا بل إن الحزب الأخير ذهب إلى أبعد ممّا تَقدّم، قائلاً في افتتاحية صحيفته الرسمية، «ييتد نئمان» التي صدرت صبيحة أمس، «إنّنا نسير مع اليمين بشكل واضح بإيعاز من حاخاماتنا، لكنّنا لا ننتمي ولن نخرج إلى معركة مشتركة. نحن نؤيّد الإصلاح القضائي ونقف ضدّ سيطرة الإرهاب الليبرالي بصورة ديكتاتورية على حياة الشعب. لكن الحريدي سيبقي قدمه خارج هذه المعركة».
مع ذلك، شاركت مجموعات «حريدية» في التظاهرة، من بينها أتباع الحاخام «الحريدي» الشهير، مئير مازوز، الذي كان دعا أنصاره إلى المشاركة في الفعالية التي وصفها بـ«فاستيفال السلام». كما حذا حذوه حاخامات من «الصهيونية الدينية»، ورؤساء كلّيات عسكرية. وكان وزير القضاء قد وجّه، عبر صفحاته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، دعوةً للاحتشاد قال فيها: «سنصعد جميعاً إلى القدس كي نقف بين مقرّ الكنيست ومبنى المحكمة العليا لنقول بقوة لا مثيل لها: "الشعب يطالب بإصلاح قضائي". صوتنا يستحقّ ذلك والتفويض الذي حصلت عليه حكومة اليمين يجب أن يُنفّذ. وسأكون هناك وأدعو الجميع إلى عدم البقاء في البيت».