تصاعدت حدّة المخاوف الدولية والإقليمية من تداعيات الأزمة السودانية في دول الجوار والإقليم الأوسع (شرق أفريقيا والقرن الأفريقي)، مع قرب دخول هذه الأزمة أسبوعها الثالث نهاية الجاري. ولئن كان الصراع بالأساس، في جانب منه، نتيجة لتدخّلات خارجية حادّة في الشأن السوداني، وعلى أساس مقاربات خصمت كثيراً من قدرة الأطراف المحلّية على التوصّل إلى حلول وسط، فإن تلك التداعيات، الراهنة والمرتقبة، تكشف عن عمق التأثير المتبادل، وإمكانية تكرار المأساة لتضاف إلى قائمة مطوَّلة من أزمات الدول الفاشلة والهشّة في شمال شرق القارّة هذه المرّة، وعلى خطوط تماس بالغة الحساسية كون السودان جسراً عربياً - متوسّطياً إلى قلب أفريقيا.
مصر والأزمة: جهد تجاوز التناقضات
تُعدّ مصر المتضرّر الإقليمي الأكبر من الأزمة الراهنة في السودان، إضافة إلى حضورها في صميمها، منذ إرهاصاتها الأولى في اشتباكات مدينة مروي في الولاية الشمالية منتصف الجاري. ومع ملاحظة حضور القاهرة المتأخّر في ملفّات المرحلة الانتقالية في السودان قبل 15 نيسان، إمّا لتباطؤ ديناميات التعاطي واضطراب التراتبيات المؤسّساتية، وإمّا لاعتبارات «تقسيم النفوذ» الدبلوماسي لصالح «الرباعية»، فإن الجهود المصرية كُلّلت في الغالب بالفشل في تحقيق اختراقات إيجابية مهمّة، وظلّت تتمترس وراء دعم الدولة السودانية والمؤسّسة العسكرية باعتبارها العمود الفقري الحقيقي للسودان راهناً. لكنّ الأزمة نفسها كشفت في واقع الأمر عن عمق التناقضات في سياسات القاهرة الإقليمية بشكل عام، وفي ليبيا والسودان بشكل خاص، وارتباطهما كدولتَي جوار بمصالح مصر الأمنية، ومخاوفها من تهديدات إرهابية في الأولى، وموجات لجوء من الثانية.
ولجأت مصر، بالأساس، إلى لغة متعقّلة للغاية إزاء الأزمة، ولم تُصدر تصريحات خارج سياقات حماية المصالح المصرية - السودانية المشتركة، وتحقيق تسوية سلمية، و«دعم الشعب السوداني في أزمته بجميع السبل الممكنة». كما لم تَنسقِ القاهرة وراء استفزازات منهجية دأب عليها قائد قوّات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، وشبكة داعميه الإقليميين المفترَضين - وعلى رأسهم الإمارات وإسرائيل -، في وقت كثّفت فيه اتّصالاتها المتبادلة مع أطراف دولية فاعلة في الأزمة، فضلاً عن تنسيق واضح من اللحظة الأولى مع الرياض. على أن هذه الاستجابة الهادئة لم تُعفِ مصر من مواجهة مأزق تناقضات سياساتها في السودان، سواء الطوعية أو المفروضة عليها، وسط ما يبدو أنه تفهّم مستجدّ من قِبَل الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبقية «شركاء السودان» الدوليين، لأهمّية دورها وخطورة تهميشه في السنوات الماضية. وعلى هذه الخلفية، بدأت القاهرة اتّخاذ خطوات حظيت بتقدير دولي، من قَبيل فتح الحدود أمام تدفّقات السودانيين إلى مصر من دون عراقيل تُذكر، وإبداء مرونة في التفاعل مع مختلف الوساطات المعنيّة بالأزمة (بما فيها وساطة الإمارات وإسرائيل)، فضلاً عن دعوتها في جلسة مجلس الأمن الطارئة (25 الجاري) إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإبدائها استعدادها لـ«تقديم جميع أشكال الدعم لتسوية الأزمة»، بما في ذلك المساعدات الإنسانية العاجلة.

إثيوبيا وإريتريا: ترقّب الأزمة وغنائمها
تبنّت إثيوبيا، منذ وصول آبي أحمد إلى السلطة وسقوط الرئيس السوداني السابق عمر البشير، سياسات واضحة عنوانها دعم «المكوّن المدني» بمختلف أطيافه تحت لافتة تأييد الانتقال الديموقراطي في السودان. واستضافت أديس أبابا، بشكل منتظم، تفاعلات ومحادثات هذا الانتقال، وعزّزت عملية تسلّم عبدالله حمدوك منصبه رئيساً للوزراء (حزيران 2019)، علماً أن الأخير بشّر، في مناسبات متعدّدة، باستلهام النموذج الإثيوبي التنموي والديموقراطي. وفي المقابل، تمكّنت القوات المسلّحة السودانية، في العامَين الأخيرَين، من الاستفادة من أزمات إثيوبيا الداخلية (ولا سيما الحرب في إقليم تيغراي)، وفرض سيادة الدولة السودانية على أقاليم ممتدّة على الحدود بين البلدَين، عقب تعاون عسكري مصري - سوداني، درّبت من خلاله القوات المسلّحة المصرية نظيرتها السودانية، وخصوصاً عبر مناورات «نسور النيل» (2020، 2021). ومن هنا، يمكن فهم الموقف الإثيوبي الراهن، والذي يرى في الأزمة السودانية فرصة لاستعادة تأثير أديس أبابا القوي في الشؤون السودانية، من بوّابة مساعي التهدئة ووقف إطلاق النار والاصطفاف مجدّداً خلف جهد إقليمي للاتحاد الأفريقي وجماعة «إيغاد»، أو قيادة هذه الجهود في واقع الأمر، وفق ما جرت عليه عادة الدبلوماسية الإثيوبية. وبينما واصلت إثيوبيا الدعوة إلى تسوية سلمية للصراع، محذّرة من «أيّ محاولات ذات دوافع وأجندات خفية للتدخّل في الشؤون السودانية لتدمير مقدّرات البلاد»، فهي تمهّد للمشاركة الفعّالة في قمّة «إيغاد» المرتقَبة ربّما مطلع أيار المقبل، والتي يؤسّس لفعالياتها حالياً الأمين التنفيذي للمنظّمة، ورقنه جيبيهو (وزير الخارجية الإثيوبي السابق وعضو "حزب الازدهار" الحاكم منذ عام 2019)، في ظلّ توقّعات بأن تُحقّق اختراقاً معقولاً في الأزمة في حال نجاحها بحشد جهود دول المجموعة بشكل كامل.
مثّلت الأزمة السودانية تهديداً مقلقاً لدولتَي الجوار، جنوب السودان في الجنوب وتشاد في الغرب


أمّا إريتريا، الخارجة عملياً عن مظلّة «إيغاد»، فهي لم تُخفِ علاقاتها الوطيدة مع «حميدتي» قبل الأزمة وبعدها؛ إذ حلّ الأخير ضيفاً (في زيارة غير معلَنة في وقتها) على الرئيس أسياس أفورقي في منتصف آذار الفائت، مطْلعاً إيّاه على التقدّم المتعلّق بـ«الاتفاق الإطاري» (الذي كان متعثّراً بالفعل حينذاك). ولم يَفُت المراقبين، وقتها، أن الزيارة جاءت في ظلّ تصاعد التنافس الأميركي - الروسي في المنطقة، والتقارب الإريتري اللافت مع روسيا التي عبّرت عن رغبتها في إقامة قاعدة عسكرية بحرية في ميناء مصوع الإريتري، وتَوجّه «حميدتي» لعقد تحالفات دولية بين قواته والأطراف المختلفة خارج مظلّة «مجلس السيادة». وفي ظلّ الأزمة السودانية الحالية، برزت تقديرات بإمكانية إسناد إريتريا (وإثيوبيا) قوات «الدعم السريع» بدعم لوجيستي وعسكري (بتمويل خليجي، وفي تكرار لسيناريو تيغراي)، فيما يتّضح يوماً بعد يوم تحيّز أسمرا الواضح في الصراع السوداني، وعدم قدرتها على التخلّي عن حليفها في خضمّه.

جنوب السودان وتشاد: مساعي التهدئة
مثّلت الأزمة السودانية تهديداً مقلقاً لدولتَي الجوار، جنوب السودان في الجنوب وتشاد في الغرب، بحكم تمدّد المجموعات القبَلية والإثنية عبر حدود الدول الثلاث، التي تواجه بالأساس مشكلات اقتصادية وأمنية مزمنة. وبادرت جوبا، التي شهدت توقيع اتفاق السلام الأبرز بين القوى السودانية بعد خلع البشير، منذ الساعات الأولى للصراع، إلى إبداء استعدادها لقيادة جهود دبلوماسية لوقف القتال، والتنسيق مع القاهرة تحديداً في هذا الملفّ، وفق ما جرى تأكيده في مباحثات هاتفية بين الرئيس سلفا كير ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي. وقامت المبادرة على تفهّم حقيقي لواقع أن تصعيد الصراع قد يَخرج عن السيطرة، وأن العلاقات التاريخية بين الدول الثلاث تجعل المقترح الجنوب السوداني قابلاً للنجاح، لكنّ هذا المقترح واجه عراقيل غير مباشرة، متمثّلة في حرص إثيوبيا و«إيغاد» على تجاوزه عبر ترتيب مبادرة أوسع وأشمل، وبتنسيق «شكلي» هذه المرّة مع القاهرة، وهو ما تمظهر في وساطة ثلاثية يقودها كير إلى جانب رئيسَي كينيا وجيبوتي. وكانت جوبا كشفت، في الـ25 من الجاري، عن خطّة سلام - لم يُعرَف بعدُ مدى تعارضها مع جهود «إيغاد» من عدمه - تضمّنت خمس نقاط، تبدأ بالوقف الفوري للأعمال العدائية وفتح المعابر أمام عمليات الإغاثة الإنسانية، وتُختتم بترتيب محادثات بين أطراف النزاع. لكن بعد مرور نحو 48 ساعة على إعلان الخطّة، لم تَبدُ التفاعلات الإقليمية معها مشجّعة، ما يشي بوجود ضغوط على جوبا لمنع «أقلمة» الوساطة خارج إطار «إيغاد»، وما يعنيه ذلك من حرص تقليدي على استبعاد القاهرة. أمّا تشاد، التي شكّلت ساحة تقليدية لأنشطة قوات «الدعم السريع» طوال العقدَين الفائتَين، فإنها حرصت على إعلان الحياد في الأزمة، وبذل جهود مضاعفة لاستقبال اللاجئين السودانيين، على رغم الإعلان المبكر عن إغلاق الحدود بين البلدَين. وبالمجمل، فقد اتّسم أداء إنجامينا بالميل إلى التهدئة، واحتواء أيّ توتّرات مستقبلية على الحدود الرخوة اجتماعياً وأمنياً إلى حدّ كبير.

السعودية وأزمة السودان: الخروج من «سياسات السفارة»
ظلّت السفارة السعودية في الخرطوم مقصداً «سامياً» لمختلف مكوّنات الأزمة السودانية، وكذلك للوسطاء الإقليميين والدوليين العاملين على دفع المرحلة الانتقالية إلى الأمام. لكن يبدو أن أحداث 15 نيسان وما تلاها قد باغتت المملكة بشكل كبير، وكشفت عن عجز «سياسات السفارة» وطابعها «الشخصاني» (بقيادة السفير علي بن حسن جعفر)، ودورها في دفع البلاد نحو الهاوية عبر تبنّي أجندات غير واقعية وغير مدروسة، تقوم فقط على الحفاظ على التوازن الهشّ في «سودان ما بعد المرحلة الانتقالية»، ربطاً بمصالح اقتصادية وأمنية واستراتيجية (ولا سيما في البحر الأحمر). وعلى هذه الخلفية، بدأ يتراجع دور السفير في بحث حلول للأزمة لصالح الخارجية السعودية، سواء عبر التنسيق المعلَن منذ اللحظات الأولى مع القاهرة، أو الجهود الدبلوماسية في الأمم المتحدة، في ظلّ ما يبدو أنه حرص على تظهير الحياد، تجلّى في تثمين جهود القوات المسلّحة في ملفّ إجلاء الرعايا السعوديين والكويتيين والإماراتيين انطلاقاً من ميناء بورتسودان بالتنسيق مع الرياض (والقاهرة)، وفي الوقت نفسه إجراء وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، محادثات مع «حميدتي» (26 نيسان) لم يكشَف عن تفاصيلها، لكن يُتوقّع أن تكون قد تناولت حضّ دقلو على القبول بالتسوية.

خلاصة
يبدو أن جهود الوساطات الإقليمية لتسوية الأزمة في السودان، ستتسارع مع نهاية نيسان، وسط آمال بأن تسفر عن خريطة طريق واضحة نسبياً مطلع أيار، وخصوصاً مع ظهور مؤشّرات إلى تبدّل مواقف بعض الأطراف الخليجية، نحو دعم حلّ سلمي وسطي. على أن التوقيتات المحدِّدة لعمليات الوساطة ومدى شمول هذه الأخيرة وجدّيتها وواقعيتها، تظلّ هي المعيار لنجاح تلك الاستجابات من عدمه، في إخراج السودان من دائرة العنف الراهنة. وإذ يصعب توقّع مسار ما بعد وقف إطلاق النار، فالأكيد أن العودة إلى ما قبل 15 نيسان باتت أمراً مستحيلاً، في ضوء المتغيّرات الداخلية على الأرض، وكذلك التحوّلات في المواقف الإقليمية.