رام الله | لا يبدو أن انقضاء شهر رمضان سيبدّد مخاوف المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية من تعاظم الخطر الآتي من الضفة الغربية المحتلّة، التي يواصل الاحتلال فرض إغلاق أمني شامل عليها يستمرّ حتى اليوم، من دون أن يفلح في منع عمليات إطلاق النار على جنوده ومُستوطِنيه، والتي سُجّلت ثلاثٌ منها يوم الثلاثاء فقط. وعلى رغم خشيته من اشتداد موجة الاشتباك وتمدّدها، في ظلّ التغيّرات المتواصلة في بنية خلايا المقاومة، إلّا أن المؤشّرات تشي بنيّة العدو الإقدام، بعد انتهاء الأعياد اليهودية، على خطوة يأمل من خلالها ترميم قوّة ردعه المتآكلة. إلّا أن هكذا خطوة لا يُؤمن أن تستتبع تداعيات خطيرة يمكن أن تدفع نحو تفجير الوضع برمّته، خصوصاً في ظلّ تأهّب المقاومة لمواجهة أيّ عملية اغتيال بردّ «منسَّق وموجع»
في وادي الحرامية الواصل بين مدينتَي رام الله ونابلس، والذي ارتبط بذاكرة الفلسطينيين بالمقاوم الأسير ثائر حماد، كان مقاومون يُعيدون كتابة الذاكرة بالرصاص، ويجدّدون لعنة المكان والذاكرة على العدو. ولم يمنع الإغلاق الأمني الشامل الذي تفرضه قوات الاحتلال على الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عصر الإثنين حتى صباح الخميس، بمناسبة إحياء ما يسمّى «ذكرى قتلى معارك إسرائيل» و«عيد الاستقلال»، المقاومين من تثبيت رسائل اشتباكهم. رسائل حملتْها الرصاصات التي أُطلقت على مستوطنين قرب أحد الأضرحة في المكان أثناء استعدادهم للاحتفال؛ إذ حملت توقيعاً واضحاً مفاده بأن عيد «استقلالكم» القائم على نكبة شعب ووطن، لن يكون في أيّ يوم هادئاً أو آمناً، طالما بقيت المقاومة حاضرة والاشتباك مستمرّ. وبالتالي، فإن ذكرى الجنود القتلى لن تكون ذكرى فقط، وإنّما حاضر ومستقبل مستمرّ باستمرار المقاومة، التي سبق وأن ضربت حالة الاستنفار والتأهّب في مدينة القدس المحتلّة مطلع الأسبوع، بعملية دهس أسفرت عن 8 إصابات في صفوف المستوطِنين، إحداها وُصفت بالخطر الشديد.
وفي المقابل، فإن اعتداءات جيش الاحتلال ومستوطِنيه باتت يومية؛ إذ ينفّذ الجيش اقتحامات للقرى والمدن والبلدات على مدار الساعة، ويُحكم قبضته الأمنية على الضفة، ويقسّم مدنها وقراها إلى «كانتونات» معزولة، موفّراً الحماية والأمن للمستوطنين لشنّ هجمات على الفلسطينيين وممتلكاتهم، على غِرار ما جرى فجر الأربعاء من هجومهم على قصرا وجالود. أمّا على المقلب الفلسطيني، فسُجّلت، الثلاثاء، 3 عمليات إطلاق نار، أسفرت إحداها عن إصابة مستوطن في وادي الحرامية، بينما استهدفت الثانية حاجز «بيت فوريك» العسكري، والثالثة مستوطنة «ألون موريه». وكانت الفترة الممتدّة ما بين 31 آذار و6 نيسان، شهدت نحو 368 عملاً مقاوماً، بينها 56 عملية إطلاق نار، أسفرت عن 9 جرحى في صفوف قوات الاحتلال والمستوطنين. على أن انقضاء شهر رمضان لم يبدّد المخاوف لدى المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية التي لا تزال ترى في الضفة الغربية الساحة الأكثر اشتعالاً، والتي يمكن أن تُلحق ضرراً غير هيّن به بإسرائيل، كونها بمثابة «الخاصرة الرخوة» للأخيرة، وهذا ما تنبئ به بالفعل التغيّرات التي تشهدها بنية خلايا المقاومة.
أَظهر أحدث استطلاع للرأي العام الإسرائيلي تعاظماً في القلق بين المستوطِنين من المستقبل المجهول


وفي هذا السياق، يقول محلّل «القناة الـ13» العبرية، ألون بن دافيد، إن جيش الاحتلال يصطدم بمئات الفلسطينيين من الضفة الغربية في كلّ عملية اقتحام، مع «استعداد غير مألوف للموت»، مضيفاً أن «الحدث الأهمّ الذي تواجهه (إسرائيل) أخيراً يأتي عبر الساحة الفلسطينية، وهو حدث لم نعهده منذ 15 عاماً، ويتّسم باستعداد العشرات أو المئات من الشبّان للخروج من منازلهم لمواجهة قوات الجيش والموت»، مرجعاً ذلك إلى التغيّر الذي طرأ على بنية الشاب الفلسطيني أخيراً. وفي الوقت الذي لا تزال فيه الضفة تتصدّر المشهد في ظلّ تصاعد أعمال المقاومة فيها، وارتفاع الإنذارات لدى المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية من تخطيط العديد من الخلايا المسلّحة فيها لتنفيذ عمليات قاسية على المدى القريب، فإن الساحات الأخرى لا تبدو أقلّ غلياناً على رغم هدوئها الظاهري، خاصة مع ترقّب المقاومة لتطوّرات الأوضاع في مدينة القدس، التي شهدت عودة اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، توازياً مع استهداف قوات الاحتلال، خلال الأيام الماضية، لمصلّى باب الرحمة الذي كان نجح المقدسيون في فتحه، وإفشال مخطّط العدو لإغلاقه.
وفي ظلّ سعي دولة الاحتلال الحثيث إلى ترميم قوّة ردعها المتآكلة، والتي تخلخلت بوضوح في شهر رمضان، وتحديداً عقب «بروفة وحدة الساحات» التي طُبّقت ردّاً على الاعتداء على الأقصى في صورة هجوم موحّد من قطاع غزة وجنوب لبنان وسوريا، إلى جانب عمليات الضفة، فإن العدو يتربّص، على ما يبدو، بتلك الساحات، في محاولة لانتزاع صورة انتصار يقدّمها للمستوطنين، قد تكون على شكل اغتيال قيادي بارز في المقاومة. وبحسب الإعلام العبري، فإن حكومة الاحتلال تنوي تغيير سياستها العسكرية في الضفة بعد اختتام الأعياد الإسرائيلية نهاية هذا الأسبوع، عبر شنّ اقتحامات وهجمات كبيرة ضدّ معاقل المسلّحين، حتى لو كلّف الأمر دخول قطاع غزة على خطّ المواجهة، وهو ما جرت مناقشته في اجتماع «الكابينت» أخيراً، لأن «إسرائيل تنوي استعادة الردع والردّ بقوة على أيّ عملية».
وإذا كانت أيّ عملية اغتيال أو استهداف للمقاومة سبباً في تفجير مواجهة، فإن ما يجري في القدس من استهداف متجدّد لـ«باب الرحمة» قد يكون بالدرجة ذاتها من الخطورة. إذ تتوالى دعوات النفير العام والاحتشاد في المدينة بلا انقطاع، وقد جاء آخرها من خلال «الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات»، والتي دعت إلى النفير العام يوم الجمعة القادم، وأداء الصلاة بكثافة في المصلّى ردّاً على انتهاكات الاحتلال فيه ومحاولته إغلاقه، مُحذّرةً من مخطّط متدحرج يسعى العدو، عبر وزير «أمنه القومي»، المتطرّف إيتمار بن غفير، إلى تحقيقه، وهدفه السيطرة على «باب الرحمة» وتحويله إلى كنيس يهودي يكون بمثابة موطئ قدم منشود للتقسيم المكاني للمسجد الأقصى، مؤكّدة أن كلّ المؤشّرات تفيد باستهداف الجزء الشرقي من المسجد ضمن مخطّط التقسيم، وهو المنطقة الممتدّة من مصلّى باب الرحمة شمالاً إلى المصلّى المرواني جنوباً، حيث عمدت الشرطة الإسرائيلية إلى فرض حصار على هذه المنطقة وتخصيصها مسارات للمستوطنين أثناء اقتحامهم الحرم القدسي. ونبّهت الهيئة إلى مخاطر تنفيذ هذا المخطّط، وما سينجم عنه من تفجير غير مسبوق للأوضاع على الأرض، جازمةً بعزم الفلسطينيين على إحباطه، و«قدرتهم على إعادة الهَبّة التي قاموا بها في شباط 2019، وانتهت إلى إعادة فتح مصلّى باب الرحمة رغماً عن أنف الاحتلال».
من جهتها، استبقت المقاومة في غزة، والتي تتابع تطوّرات ما يجري في دولة الاحتلال، أيّ خطوة قد تُقدم عليها الأخيرة، بإعادة ترسيم معادلات الاشتباك، محذّرة من أن «العقاب المنتظَر للعدو وجيشه المهزوم»، على «تفعيل سياسة الاغتيالات ضدّ قادة المقاومة» سيكون كبيراً. كما حذّرت من أن الاحتلال «يلعب بالنار بما يقوم به من إجرام تجاه المسجد الأقصى، ومواصلته الاعتداء على مصلّى باب الرحمة، والذي يمثّل محاولة فاشلة لتغيير الهوية الإسلامية في القدس، وجزءاً من مخطّطات التهويد التي لن تمرّ بإذن الله». وفي ضوء تشديد المقاومة على ثبات معادلة «وحدة الساحات»، وبحث إسرائيل عن استعادة قوّة ردعها المهدورة، يبقى التأهّب سيّد الموقف خلال الأيام القليلة المقبلة، وهو الأمر الذي انعكس على المزاج العام للمستوطنين؛ إذ أَظهر أحدث استطلاع للرأي العام الإسرائيلي تعاظماً في القلق بينهم من المستقبل المجهول، مبيّناً أن «75% من الإسرائيليين قلقون على مستقبلهم»، في ارتفاع كبير مقارنة مع العام الماضي، حيث عبّر نصف الإسرائيليين عن قلق مماثل آنذاك.