مثّل انعقاد اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» في بنغازي (7 نيسان)، إشارة هامّة إلى اقتراب الأطراف الليبيين من تفاهم أوثق وأبعد بكثير من مخرجات اجتماعهم الأخير في القاهرة (شباط 2023)، إذ ضمّ الاجتماع أطرافاً من مختلف أرجاء ليبيا على المستويَين العسكري والأمني، وحضره المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، عبدالله باتيلي، واستهدف التباحث في كيفية المضيّ قُدُماً في إجراء الانتخابات في العام الجاري. وبينما تراجعت لهجة العداء البَينية على نحو يشي بتفاهمات قيد النضوج، مع تكثيف أطراف إقليمية ودولية وساطاتها وروافعها المشجّعة، عادت مصر إلى انتهاج مقاربة دبلوماسية مقبولة بالنسبة إلى الأطراف كافة، وهو ما ستكون له نتائجه الطيّبة في ما تبقّى من العام الحالي. كذلك، يلاحظ تعزّز التنسيق الإيطالي - الأميركي، الذي على رغم «تقليديّته»، يكتسب أهمية فائقة في هذه المرحلة، في ظلّ الاستقطاب الدولي الراهن وتداعياته على إقليم الساحل والقارة الأفريقية.

العودة المصرية والتسوية بالمحاصصات
خلت تقديرات لأكبر سبعة شركاء تجاريين مع ليبيا، في الشهور الـ11 الأولى من العام الماضي، من اسم مصر (وفرنسا للمفارقة أيضاً هنا)، على رغم ارتفاع حركة التجارة الليبية مع الخارج بشكل لافت، ولا سيما مع إيطاليا (11.09 بليون يورو بزيادة 68% مقاربةً بالفترة نفسها من عام 2021)، والصين (4.41 بليون يورو)، اللتَين استحوذتا وحدهما على نسبة 34% من السوق الليبية، ثمّ اليونان وإسبانيا وألمانيا وتركيا وهولندا (على الترتيب)، التي استحوذت مجتمعةً على نسبة 35% من السوق نفسها. وتؤشّر هذه المعطيات إلى تراجع مصري غير مسبوق في العقد الأخير في الحضور المباشر في السوق الليبية، لصالح أطراف إقليمية ودولية.
لكن بالتوازي مع الديناميات السياسية الجارية للوصول إلى انتخابات عامّة، بادرت حكومة عبد الحميد الدبيبة (10 الجاري) إلى إرساء عقد لبناء محطّة توليد كهرباء باستخدام الغاز الطبيعي في زليتن، بقيمة 1.4 بليون دولار، على تحالف قطري - مصري. وجاء هذا التعاقد، الذي يستهدف تحسين قدرات ليبيا في إنتاج الكهرباء بما يتّسق مع الطلب على الطاقة، في ظلّ تنسيق قطري - مصري آخذ في التعمّق منذ تشرين الأوّل الماضي، ومصحوب بنشاط دبلوماسي قطري لافت على خطّ الأزمة الليبية، وتراجع مصري نسبي عن سياسات «الانحياز» إزاءها، كما اتّضح في إدارة القاهرة السلسة وغير المشروطة لاجتماعات لجنة «5+5» في شباط الفائت، بعد جولات سابقة خصمت من رصيد مصر كراعٍ رئيس للملفّ لدى قيادات عسكرية وأمنية في غرب ليبيا.
ودلّ حضور الملفّ الليبي في نشاط القاهرة الدبلوماسي قرب منتصف نيسان إزاء كلّ من تركيا واليونان، وما روّجت له وسائل إعلام مصرية عن احتمال لعب مصر دور وساطة بين البلدَين المذكورَين، على عودة مصرية قوية إلى الساحة الليبية، من بوّابة التوافق هذه المرّة، وليس الاصطفاف خلف خيارات صِفرية ضاغطة. ولعلّ ذلك هو ما يمكن تلمّسه بوضوح في محادثات التطبيع التركي - المصري، التي على رغم أنها لم تفضِ إلى الآن إلى تلبية مطلب القاهرة المتمثّل في خروج القوات التركية من الأراضي الليبية، إلّا أنها تبدو أقرب ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى، من إنجاز تفاهم بشأن الوضع في ليبيا، بما يشمل معالجة الخلاف الذي أفرزه إعلان مصر، في كانون الأول 2022، ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا، والذي اعتبرته حكومة الدبيبة وقتها «غير متوافق مع بنود القانون الدولي وغير عادل»، ووصفه البرلمان المنعقد في طبرق (الموالي للواء المتقاعد خليفة حفتر) بـ«الخطوة المصرية الأحادية التي تمّت من دون مشاورات مسبقة في هذا الوقت الصعب الذي تمرّ به البلاد».
وبغضّ النظر عن ملابسات العودة المصرية تلك، فإنها ستمثّل إضافة مهمّة للجهود الدولية الراهنة الهادفة إلى إجراء الانتخابات الليبية، وإنهاء الأزمة السياسية بخيارات معقولة سواء للأطراف المحلّية أم للقوى الخارجية المعنيّة.

محور روما - واشنطن: تعميق الأمر الواقع
كما كان متوقّعاً، وصل التنسيق الأميركي - الإيطالي في ليبيا إلى مستويات رفيعة، تمثّل تجلّياً لما تُسمّيه الولايات المتحدة استراتيجية «منع الصراع وتعزيز الاستقرار» (SPCPS)، ودعم الشراكات وتطويرها من قِبَل مكتب ليبيا الخارجي (LEO) في إدارة جو بايدن. وتستهدف هذه الاستراتيجية توثيق التعاون مع الاتحاد الأفريقي في ملفّ المصالحة الوطنية، ومع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في ملفّ تفكيك التحشيد (demobilization) ونزع السلاح وإعادة الاندماج، والتهيئة لقيام سلطة «منتخَبة ديمقراطياً، وموحّدة، وممثِّلة للشعب الليبي، ومعترَف بها دولياً». كذلك، تستهدف الخطّة، في تفاصيلها، دمجاً أفضل لـ«الجنوب المهمَّش تاريخياً» في الأبنية الوطنية، ما يقود إلى عملية توحيد وتأمين أوسع لحدود ليبيا الجنوبية، وهو ما يتّسق مع محدّدات السياسات الإيطالية في هذا البلد منذ سنوات.
وإلى جانب المصالح الاقتصادية لإيطاليا في ليبيا، ودورها في ضبط سياسات روما ذات الصلة، كما يتّضح في التشابك المعقّد بين ملفَّي الاستثمارات الإيطالية وقضية المهاجرين عبر ليبيا إلى سواحل إيطاليا الجنوبية، فإن تخوُّف روما الرئيس يظلّ من تمركز مئات الألوف من المهاجرين (قدّرهم مسؤولون إيطاليون في آذار الماضي بنحو 685 ألف فرد) في ليبيا ومعسكرات الاحتجاز فيها، ترقّباً لأيّ فرصة لعبور وسط البحر المتوسط. لكن يلاحَظ أيضاً ما قد يعتري تلك الأرقام من مبالغة ترمي إلى توظيف الملفّ بشكل مفرط في السياسات الداخلية الإيطالية، وفق ما يُظهره إعلان الحكومة الإيطالية اليمينية حالة الطوارئ الوطنية (11 نيسان) لمدّة ستّة أشهر لـ«المساعدة في مواجهة ارتفاع أعداد المهاجرين إلى سواحل البلاد الجنوبية».
بأيّ حال، فإن تنسيق سياسات الأزمة الليبية بين روما وواشنطن، وهما أكبر فاعلَين دوليَّيْن في ليبيا، سيظلّ حاكماً بشكل كبير لمسار التسوية السياسية ودعمها وضبط مخرجاتها.

فتحي باشاغا والبحث عن دور
على عكس تيّار التوافقات الإقليمية والدولية الراهنة في الشأن الليبي، يَظهر فتحي باشاغا، رئيس الحكومة الموازية، كأبرز الشخصيات الرافضة لهذا التيّار. وعلى سبيل المثال، فقد بادر باشاغا (11 نيسان) إلى إعلان بطلان الاتفاقات التي وقّعتها حكومة الدبيبة مع إيطاليا (كانون الثاني 2023). كما سبق هذه التصريحات، التي عنت تخوّفه من تهميشه مستقبلاً في سياسات روما في ليبيا، تعليقه على اجتماع «5+5» الأخير في بنغازي بأن توحيد الجيش والمؤسّسات الأمنية أمر مستحيل «في المستقبل القريب»، على رغم إبداء أطراف الاجتماع التزامها الكامل بمخرجاته، ودلالة انعقاد اجتماعات اللجنة أصلاً في طرابلس وبنغازي على التوالي، فضلاً عن قيام قوات حفتر بعد أيام بنشر قوّات مشتركة في جنوب ليبيا لتأمين الانتخابات المقرَّرة (وحماية الحدود ولا سيما من عمليات تهريب البشر وحركة المهاجرين غير الشرعيين، وتأمين الموارد الطبيعية في الإقليم).
كما كان متوقّعاً، وصل التنسيق الأميركي - الإيطالي في ليبيا إلى مستويات رفيعة

كما اعتبر باشاغا، الذي سارع إلى تقديم أوراق ترشّحه لانتخابات الرئاسة التي كانت مقرَّرة نهاية كانون الأوّل 2021 قبل إلغائها بأيام قليلة، أن الحديث عن ترشحه في الانتخابات الرئاسية المرتقبة - حال التوافق على عقدها - سابق لأوانه، وأن قراره يعتمد على الأحوال والتطوّرات التي سيأخذها في اعتباره و«أهمّها دعم العملية الانتخابية والخيار الديموقراطي». يتّضح من هذا الأداء المضطرب نوعاً ما، والذي أعقب تجاهل باتيلي الاجتماع ببشاغا في تحرّكاته الأخيرة، وجود حالة من هشاشة الثقة لدى الرجل بوضعه في مجمل المتغيّرات الراهنة ودوره المستقبلي، ولا سيما عند مقارنة سلوكه الحالي بمواقفه قبل أكثر من شهر، وإعلانه حينذاك (مطلع مارس/ آذار الفائت) دعمه الكامل للجنة «5+5»، والحاجة إلى جيش موحّد، وترحيبه بدور المجتمع الدولي «لتحقيق طموحات ثلاثة ملايين ليبي في الذهاب إلى صناديق الاقتراع قبل نهاية عام 2023».

خلاصة
تمضي الأزمة الليبية نحو مسارات أكثر انفتاحاً، مع نشاط ملموس للمبعوث الأممي داخلياً وإقليمياً، تمكّن من تحقيق عدد من الاختراقات، أهمّها التئام اللجنة العسكرية المشتركة، وترتيب تفاهمات جادّة مع دول الجوار الليبي. وترافقت هذه الاختراقات مع تحوّلات إقليمية ودولية هامّة، تجلّت في تعميق المحاصصات الاقتصادية في مشروعات إعادة بناء الاقتصاد الليبي، واحتمال تجاوز أطراف كانت تمثّل رقماً هامّاً على الساحة الليبية، مِن مِثل وزير الداخلية السابق، فتحي باشاغا، المدعوم من البرلمان المنعقد في طبرق.



اجتماعات مثمرة لـ«5+5»: الانتخابات لم تَعُد مستحيلة

طرابلس ــ الأخبار
بدأت الاختراقات التي تحقّقت في جدار الأزمة الليبية أخيراً، تؤتي ثمارها في صورة تفاهمات مختلفة يَجري العمل على بلورتها وصياغتها بلقاءات منفردة ومجتمعة، فيما سيكون اجتماع سبها الأمني لأعضاء اللجنة العسكرية المشتركة «5+5»، والمقرَّر بعد إجازة عيد الفطر مباشرة، مصيرياً لناحية التحضير للانتخابات. وخلال الاجتماعَين الماضيَين في طرابلس وبنغازي، جرى الاتفاق على الأطر العامة التي سيتمّ بموجبها تأمين الانتخابات عبر نشر القوات العسكرية والأمنية وتحييد الميليشيات المسلّحة، مع التشديد على إجراء انتخابات الرئاسة والبرلمان في اليوم نفسه، وتشكيل غرف عمليات مشتركة وقيادة تكون مسؤولة عن التعامل مع الأزمات الطارئة وبسرعة حاسمة. على أن الوصول إلى درجة التنسيق الأمني الكامل خلال إجراء الانتخابات، لن يكون ممكناً من دون استكمال إجراءات عديدة، في مقدّمتها إخراج جزء من المرتزقة، وهو ما سيتمّ الإسراع في تنفيذه خلال الشهرَين المقبلَين على أقصى تقدير.

(أ ف ب)

في هذا الوقت، يبقى الرهان الأكبر على النجاح في تبادل المعلومات حول الأسرى المحتجزين لدى كلّ طرف، تمهيداً لإنجاز عملية تبادل في ما بينهم. وعلى رغم أن ثمّة توافقاً كاملاً على إنهاء ذلك الملفّ، إلّا أن بعض الأسماء يتعقّد التفاوض حولها بسبب دورها في الاشتباكات العسكرية، وهو ما قد يهدّد بانهيار المفاوضات. على أن المؤشّرات الآتية إلى الآن تفيد بأن الأطراف كافة باتت مستعدّة لتقديم التنازلات المطلوبة، ولا سيما مع الضغوط التي تمارَس ليس من المبعوث الأممي، عبدالله باتيلي فقط، بل وأيضاً من الأطراف الداعمة لكلّ طرف إقليمياً ودولياً. وإلى جانب ملفّ الأسرى، يتقدّم ملفّ المهجّرين الذين يُفترض أن يعودوا إلى بيوتهم قريباً، لكن بعد إجراء مراجعات أمنية للتأكّد من أحقّية العائدين، وعدم وجود حالات تزوير أو انتحال صفة من شخصيات غير ليبية، ليصار إلى صرف تعويضات من الحكومة لجميع العائلات المتضرّرة، وتسهيل تأهيل المنازل وإعادة الحياة إلى طبيعتها، في أسرع وقت ممكن.
ومع أن جزءاً من الخلافات المتّصلة بالعملية الانتخابية لم يجرِ حلّه إلى الآن، إلّا أن ثمّة رهاناً على أن استكمال الترتيبات الأمنية سيسهّل حسم بقيّة النقاط العالقة خلال أسابيع على أقصى تقدير، وخصوصاً أن لجنة «5+5» تعكف على إعداد قوانين الانتخابات في مناقشات غير رسمية. وفي هذا المجال، تسعى اللجنة لحلحلة الخلافات المرتبطة بشروط وضوابط الترشّح، والتي يُتوقَّع أن يتمّ تليينها بما يسمح لغالبية الشخصيات الموجودة على الساحة بخوض السباق. وتحظى مهمّة الترتيب لإجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، بدعم أميركي واضح، فيما تراقب جهات عدّة نتائج الاتصالات غير الرسمية، والتي تتضمّن التباحث في مشاريع محاصصة، بدأ العمل على صياغتها قانونياً لتجنّب أيّ عرقلة في الاجتماعات الرسمية.
إلى ذلك، مرّر مجلس النواب الليبي قانون إعادة تنظيم جهاز المخابرات العامّة الليبية، وهو القانون الذي تضمّن تحديثات وتعديلات على القانون القديم، وسيشغل بموجبه منصب مدير المخابرات، الفريق حسين العايب، من طرابلس، مقرّ عمل الجهاز، والذي ستؤول إليه أصول وممتلكات «الأمن الخارجي» المنحلّ و«الهيئة الوطنية للأمن القومي».