هل تتدحرج أحداث المسجد الأقصى إلى مواجهة عسكرية واسعة النطاق مع قطاع غزة؟ سؤالٌ يتقدّم المشهد اليوم من دون أن تتوافر له إجابات قاطعة، وإن كان الجانبان معنيَّيْن، مبدئياً، بأن لا يتحوّل التصعيد المحدود إلى الآن، إلى معركة على غِرار «سيف القدس». وإذ يَبرز، في هذا السياق، تقديرٌ مفاده بأن إسرائيل قد تحاول الهروب من أزمتها الداخلية عبر افتعال «مشكل» مع الفلسطينيين، إلّا أن ذلك «المشكل» لن يبقى محصوراً بالقدس، بل سيتدحرج إلى الضفة الغربية، ومن ثمّ إلى أراضي عام 1948، وربّما يدفع القطاع إلى الانخراط في الاشتباك أيضاً، من دون استبعاد احتمال انضمام الجبهة الشمالية التي تُعدّ القدرة على الإيذاء فيها أكبر بما لا يُقاس ممّا هي في تلك الجنوبية. ويُضاف إلى ذلك، أن الأزمة الداخلية الإسرائيلية أكبر من أن يتمّ تمويهها، أو إنهاؤها بمحاولة إلهاء أمنية، لن تفلح إلّا في إرساء تهدئة مؤقّتة، قبل أن تعود الأمور إلى الاستعار مجدّداً، موفِّرةً مادّة تصعيد إضافية بين المنقسِمين على أنفسهم، وهي تقاذف الاتّهامات بشأن المسؤولية عن التسبّب بمواجهات.مع ذلك، فإن أوجه الشبه مع عام 2021 تبدو ملحوظة جدّاً، ليس على خلفية الأزمة الداخلية في إسرائيل فحسب، بل وأيضاً مع ازدياد الجرائم الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، واشتداد حدّتها في ظرف حسّاس جدّاً، باتت عوامله ومقدّماته متداخلة. قبل عامَين، تسبّبت الاعتداءات الإسرائيلية بمواجهة عسكرية واسعة مع قطاع غزة، وأيضاً في أراضي عام 1948، ناهيك عن القدس والضفة الغربية المحتلّتَين. وفي حينه، كان المستفِزّون المباشرون خارج السلطة، في حين أنهم الآن داخلها، وعلى رأسهم وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، الذي وجد وأتباعه الفرصة سانحة لترجمة إيديولوجيّتهم الفاشية ضدّ الفلسطينيين، بعدما كان يحول بينهم وبين ذلك «فاصل» قانوني حتى لا يتسبّبوا بتداعيات لا تصبّ في مصلحة «إسرائيل الدولة». وإذ يعتقد بن غفير وغيره من الفاشيين أن ثمّة حاجة إلى تغيير السياسات في مواجهة الفلسطينيين، فهم باتوا يرون في التصعيد مطلباً لذاته، ضمن معادلة طرْدية عنوانها: كلّما احتدمت المواجهات، استحصلت الدولة العبرية على مكاسب، وإنْ مع دفْع أثمان. والجدير ذكره، هنا، أن المتطرّفين يتطلّعون من وراء التعديلات القضائية، إلى تمرير قوانين وممارسة أفعال عدائية ضدّ الفلسطينيين، شاذّة جدّاً وزائدة عن حدّها، إلى درجة أن بقيّة الإسرائيليين أنفسهم يستصعبون هضمها، فكيف إنْ توافرت الفرصة لتحقيق هذا المطلب حتى من دون تلك التعديلات؟
تتّجه الأنظار إلى الأسبوع الأخير من شهر رمضان، حيث الاعتكاف يتواصل في الحرم القدسي


على خلفية ما تَقدّم، يمكن فهم الانتقادات الداخلية لأداء شرطة الاحتلال في القدس، والتي ردّت هذه المرّة بما لا يتناسب مع «التهديد المباشر»، على رغم التقدير بإمكان التسبّب بتصعيد ومواجهات، إذ جرت العادة على أن يواجِه المقدسيون المستوطنين بإلقاء الحجارة والأسهم النارية من باحات الحرم على مَن يؤدّون شعائر وطقوساً يهودية على حائط البراق، فيما تعمل الشرطة على إبعاد الأوّلين عن جدار الحائط من أعلى، فتمنع عنهم إمكانية الرشق. أمّا هذه المرّة، وعلى رغم هشاشة الأوضاع، فقد أبعدت قوات الاحتلال المعتكفين عن حائط البراق، ومن ثمّ لاحقت الفلسطينيين الذين تحصّنوا داخل الأقصى، واعتقلت المئات منهم تمهيداً لمساءلتهم، ما يعني التسبّب بعوامل توتير إضافية كانت تتحاشاها في الماضي. وممّا رفع منسوب التوتّر أيضاً، إضافة إلى رعونة الشرطة، عاملان أساسيان: الأوّل، قيام جنود العدو بقتل الطبيب الفلسطيني، محمد خالد العسيبي، بالقرب من الأقصى، بدم بارد وعلى الملأ، وبلا مسوّغ سوى كراهية الفلسطينيين، وهو ما أثار موجة سخط كبيرة؛ والثاني يتعلّق بمحاولات جماعة «جبل الهيكل» وغيرها من الحركات والتنظيمات - وإنْ كانت محدودة الانتشار والعدد -، الدخول إلى باحات المسجد لذبح القرابين فيه عشيّة عيد الفصح اليهودي، وتخصيصها جائزة مالية قدْرها 20 ألف شيكل (يزيد عن 5 آلاف دولار) لِمَن ينجح في الدخول إلى الأقصى وذبح قربان فيه، مع تعويض مالي لكلّ مَن حاول ولم ينجح. إزاء ذلك، أثيرت تساؤلات كثيرة في تل أبيب، من بينها: هل كان ضرورياً قتل العسيبي؟ هل لزِمت ملاحقة المعتكفين بعد أن ابتعدوا عن حائط البراق؟ هل لم يكن ثمّة مناص من اعتقال المئات منهم؟
في الموازاة، جاءت ردّة الفعل من قطاع غزة مدروسة، فيما جاراها العدو بردود مدروسة أيضاً، وخاصة أن الإمرة على الجانب الإسرائيلي متّصلة أوّلاً بالمؤسّسة الأمنية، المعنيّة بأن لا تتسبّب اعتداءاتها بمواجهة متدحرجة مع القطاع، تعيد تكرار سيناريو عام 2021. وبينما أرادت المقاومة تثبيت معادلة «وحدة الساحات» من دون أن تدفع نحو تصعيد منفلت يحدّ من فاعلية ديناميات الاشتباك الجاري في القدس، فقد حافظت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، بدورها، على مطلبَين: الأوّل تنفيذ ردّ شبه تناسبي على إطلاق الصواريخ في اتّجاه «غلاف غزة» الاستيطاني، والثاني الحيلولة دون التدحرج إلى مواجهة واسعة. الآن، تتّجه الأنظار إلى الأسبوع الأخير من شهر رمضان، حيث الاعتكاف يتواصل في الحرم القدسي، وليلة القدر المنتظَرة تستقطب مزيداً من المصلّين، فيما الدافعية للتصدّي لمخطّطات الاحتلال تزداد زخماً. فهل تنزلق الأمور إلى مواجهة عسكرية واسعة أم تحافظ على ما هي عليه راهناً؟
تصعب الإجابة واقعاً، لكن الأكيد أن ما حدث وما سيحدث، إنّما يفسّر إرادة التغيير في المنظومة القضائية والإجراءات المتّبعة في الكيان، سواء ضدّ الفلسطينيين أو ضدّ اليهودي المختلف. وبناءً على هذه الخلفية، يأتي الترابط بين الأزمة الداخلية والتصعيد الأمني، ليس من منطلق الهروب من الأزمة، بل في سياقها وإلى جانبها.