عمّان | مساء الثلاثاء الماضي، وخلال الانتقال من إشارة الدوريّات الخارجية شمال العاصمة الأردنية عمّان، في اتّجاه حيَّي الجبيهة وأبو نصير، لم يكن من الممكن ألّا يلفت نظرَنا مشهد المئات من شباب «لجان القدس» في الجامعات الأردنية، والذين كانوا يردّدون هتافات مِن مِثل: «شعب القدس يا أحرار، نحمي الأقصى مهما صار»، «بالروح بالدم نفديك يا أقصى»، في إطار اليوم المفتوح لحملة «فَلْنشعل قناديل صمودها» المستمرّة منذ سنوات. على الرغم من ضيق الحال، والأزمات المعيشية الخانقة التي ولّدتها السياسات الاقتصادية المقوِّضة لآلاف العائلات من الطبقة الوسطى، توّج «برنامج إعمار البلدة القديمة للقدس»، والذي تديره نقابة المهندسين الأردنيين، مرحلته التاسعة بيومٍ مفتوح تحت شعار «فَلْنشعل قناديل صمودها»، يستهدف جمع أكبر كمّية ممكنة من المساهمات المالية لغايات ترميم العقارات الأكثر استهدافاً من قِبَل الاحتلال في البلدة القديمة في القدس. وللعام الثالث عشر على التوالي، وما خلا انقطاعات بسيطة بفعل جائحة «كورونا»، يواصل البرنامج الذي تشرف عليه لجنة «مهندسون من أجل فلسطين والقدس» جهوده «الترميمية» تلك، بوصف «القديمة» خطّ الدفاع الأوّل عن المسجد الأقصى. وكانت ولدت فكرة البرنامج عام 2010، مع تصاعد الاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى والقدس، والتي تُوّجت في تلك الفترة بمحاولات الاستيلاء على تلّة المغاربة الواقعة إلى الجنوب من المسجد، تزامناً مع تسارع وتيرة الاستيطان في محيط المدينة. وفجّر ذلك حالة تضامنية واسعة تحت شعار «الأقصى مسؤوليتي»، لتبدأ ثلّة من المهندسين والنشطاء العاملين لصالح القضية الفلسطينية على الساحة الأردنية، التفكير بوسائل التحرّك العملي للدفاع عن القدس والأقصى، ومن هنا نشأ «برنامج إعمار البلدة القديمة للقدس». ومرّ البرنامج بعدّة أطوار، قبل أن يتكرّس كعنوان رئيس من عناوين الدعم الشعبي الأردني للقضية الفلسطينية. ويروي المهندس شكيب عودة الله، مسؤول لجنة «مهندسون من أجل فلسطين والقدس» في نقابة المهندسين، تفاصيل تلك المراحل، قائلاً في حديث إلى «الأخبار»: «كانت المرحلة الأولى استكشافية، خاضتها اللجنة كتجربة تستكشف بواسطتها إمكانات التدخّل لدعم صمود المقدسيين، واستطاعت من خلالها ترميم مشروعين بكلفة تعادل حوالي 150000 دولار»، مضيفاً أنه «في المرحلة الثانية، في عام 2013، سُجّلت الولادة الفعلية للبرنامج؛ إذ تمّ إنجاز 13 مشروعاً للإعمار، تضمّ 14 وحدة سكنية، يقطنها 49 مقدسياً».
تمكّن الأردنيون من خلال "تحويشات" حصّالات أبنائهم، واقتطاعات رواتبهم، من جمْع ما يقارب الـ700 ألف دولار


ويوضح عودة الله أنه «من هنا، بدأت الحملة تتّجه نحو أن تكون أكثر مؤسّسية، حيث تبلوَر جسمها الإداري من عددٍ من المهندسين والباحثين والمختصّين بالشأن المقدسي، وتمخّض ذلك على الأرض عن استراتيجية جديدة عُنيت بالعقارات التي تضمّ أكثر من وحدة سكنية، والتي يمكن ترميمها وتمكين المزيد من الفلسطينيين من السكن فيها»، متابعاً أن «الحملة اهتمّت كذلك بالعقارات التي يعود زمن بنائها إلى العصور الإسلامية المملوكية والعثمانية، للحفاظ على الوجه الحضاري للبلدة القديمة». ويشير إلى «(أنّنا) كسرنا في المرحلتَين الخامسة والسادسة حاجز المليون ونصف المليون دولار، ولكنّنا اصطدمنا في عام 2021 بتبعات جائحة "كورونا"، وبعد انقطاع لمدّة سنة تمكّنا من الحفاظ على حاجز المليون دولار». ويختم بأنه «اليوم، وفي المرحلة العاشرة، والتي جاءت خلال شهر رمضان وفي ظلّ تصاعد الأزمة الاقتصادية في الأردن، تمكّن الأردنيون من خلال "تحويشات" حصّالات أبنائهم، واقتطاعات رواتبهم، من جمْع ما يقارب الـ700 ألف دولار».
وانخرطت، في إطار حملة التبرّع تلك، «إذاعة حسنى» التي فتحت أثيرها ومقرّها للراغبين في المساعدة، ومن بينهم طلّاب مدارس أتوا بحصالاتهم لإفراغها، فيما أحدهم، وهو من إحدى مدارس عمّان، كتب رسالة إلى إخوانه في القدس بأنه لم يستطع المساهمة بالمال، لكن «رسالة القلوب تسبق». أمّا هاني عثمان، السائق في تطبيق «طلبات» لخدمة التوصيل إلى المنازل، فقد قال في اتّصال مع الإذاعة: «الله بعلم كم درج طلعت وكم طلب وصلت عشان أجيب هاد المبلغ للحملة، وهو 10 دنانير». ومع انقضاء اليوم المفتوح، ثبّتت حملة «فَلْنشعل قناديل صمودها» نفسها بوصفها تجربة شعبية أردنية في دعم صمود الفلسطينيين، لم تستطع تجاوُز حدود الممكن، ولكنها أبدعت في استغلاله.