يتّضح من قراءة ما عُرفت بـ«المسوّدة الأولى للاتّفاق (السياسي) النهائي»، والتي تمّ تسليمها لأطراف العملية السياسية في 26 آذار الفائت، وجود ثغرات مستدامة في هذه العملية، لعلّ أبرزها ترحيل مناقشة الملفّات الحسّاسة، بما يشمل اختيار أعضاء مجلس الوزراء المرتقَب تكوينه وفق «الكفاءة والتأهيل المناسبين». وبالنظر إلى ضيق الوقت بين الموعد المحدَّد للتوقيع على الاتفاق (6 الجاري) والموعد المفترض لتكوين الحكومة (11 نيسان)، فيمكن القول إن هؤلاء الوزراء قد جرى اختيارهم بالفعل، وإن المسوّدة تجاوزت أيّ احتمالات لتوسيع قاعدة الموقّعين على الاتفاق في «اللحظات الأخيرة». كما تفادت المسوّدة حسم وضع «مجلس السيادة» ومنصب رئيس الدولة ريثما يتمّ «التوافق بين الأطراف المختلفة خلال الأيام القادمة»، وهو أمر مستبعَد للغاية على المدى القريب، وقد لا يمكن تفسيره إلّا في سياق رفع قدرة المساومة «الديموقراطية» في مواجهة قادة الانقلاب، بهدف حملهم على تقديم مزيد من التنازلات. وإلى جانب تجاهلِ مفهومِ تشكيل جيش مهني موحّد، فإن الجانب المتّصل بالمؤسّسات الدستورية اعتراه افتئات واضح على إرادة الشعب السوداني، بنصّه على تخصيص 25% من مقاعد المجلس التشريعي (المقرَّر تكوينه من 150 عضواً إلى 300 عضو) للأطراف المُوقِّعة على الاتفاق (وهي ذات أوزان انتخابية تقلّ بكثير عن هذه النسبة)، وتخصيص 75% للقوى السياسية والمهنية و«لجان المقاومة»، ما يجعل المجلس المرتقَب مؤسّسة «معيَّنة» بالكامل، تفتقر إلى أبسط مقوّمات دورها التشريعي (التمثيل الشعبي)، وتمثّل مجرّد أداة لتمرير مقرَّرات المرحلة الانتقالية. وعلى خلفية هذه المحصّلة المؤشّرة إلى استبداد «القوى الديموقراطية» المُوقِّعة على «الإطاري»، بدا لافتاً تزامن اضطرابات الساعات الأخيرة من ورشة «الإصلاح الأمني والعسكري»، والتي غاب عنها ممثّلو الجيش السوداني ما فرّغها من جدواها، مع تصاعد حشد المعارضة السودانية متعدّدة المكوّنات والتوجّهات، ضدّ أجندة تلك القوى. فقد أعلنت مكوّنات فاعلة في شرقي السودان عزمها إغلاق الإقليم تماماً، احتجاجاً على إقصاء فاعلياته من المشاركة في العملية السياسية. كما بادرت (1 نيسان) مكوّنات أهلية محسوبة على نظام عمر البشير إلى التهديد بإغلاق العاصمة الخرطوم في الخامس من نيسان، في مواجهة الانتقاص من مكانتها. كذلك، امتدّ الرفض إلى تشكيلات سياسية قادت «ثورة ديسمبر» ضدّ البشير في مراحلها المبكرة حتى سقوطه، مِن مِثل «الحزب الشيوعي السوداني» الذي أعلن (2 نيسان) رفضه الترتيبات الأمنية الواردة في «اتفاق جوبا» وفي التسوية السياسية (التي تهدف مرحلياً إلى تقييم الاتفاق المذكور بحسب المسوّدة المعلنة)، ودعا إلى الحشد الشعبي في 6 نيسان «لمواصلة مقاومة التسوية التي تهدف إلى تصفية الثورة». وجاء إعلان الحزب استكمالاً لانتقاداته المستمرّة لحلفائه السابقين في «الحرية والتغيير» على خلفيّة عدم امتلاكهم التفويض الشعبي المطلوب، واتّهامه إيّاهم بالعمل مع «العسكر» في سبيل التوصّل إلى تسوية وصفها بـ«الباطلة».

ما بعد 6 نيسان
أمهلت القوى المُوقّعة على «الاتفاق الإطاري»، قادة الجيش و«الدعم السريع» 5 أيام لإنهاء خلافاتهم بشأن إصلاح القطاع الأمني، تمهيداً للتوقيع على الاتفاق السياسي النهائي في 6 نيسان. لكن في الوقت نفسه، وفي ما يناقض تلك التوصية، اعتبر الناطق باسم القوى المُشار إليها، خالد عمر، أن القضية الخلافية الوحيدة (دمج "الدعم السريع" في القوات النظامية) «ذات طبيعة فنّية» بحتة. وهو ما كان ذهب إلى مِثله أيضاً نائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو - «حميدتي» - (26 آذار)، بقوله إن «إصلاح القطاع الأمني والعسكري» ليس نشاطاً سياسياً، على رغم أن هذا المسار يمثّل أحد أعمدة الاتفاق السياسي وربّما أهمّها على الإطلاق. أمّا البرهان فيصبّ تركيزه على ضرورة توسيع قاعدة المُوقّعين على الاتّفاق النهائي، واضعاً رهانه، على ما يبدو، على أن «القوى الديموقراطية» لن تجتاز اختبار الانتخابات بسهولة. والواقع أن ذلك الرهان ليس صفرياً تماماً، في ضوء خفّة تصوّرات هذه القوى لتسوية الأزمة الاقتصادية في السودان، واختزالها إيّاها - بحسب المسوّدة الأوّلية - بولاية وزارة المالية على المال العام ومحاربة الفساد، من دون تفصيلات محدّدة.
يرجَّح توقيع الاتفاق السياسي النهائي في 6 نيسان المقبل بصياغاته الحالية المنقوصة


وأيّاً يكن، يبدو أن الاتفاق السياسي سيركّز على تكوين الحكومة كهدف في حدّ ذاته، فيما ستؤجَّل ملفّات «اتفاق جوبا» (لا سيما «مسار الشرق) تحت لافتة «إعادة تقييمه»، ما يعني أن الأوّل سيكون في نهاية المطاف بديلاً مبْتَسراً للثاني وليس تصحيحياً له. كما أن الإلحاح حصراً على مسألة دمج «الدعم السريع»، إنّما يعبّر عن رؤية مخادعة لبقيّة استحقاقات المرحلة الانتقالية، علماً أن المُدد الزمنية المطروحة أصلاً لإتمام هذه العملية، سواءً الخمس سنوات التي تحدّث عنها المبعوث الأممي، فولكر بيرتس، أو العشر سنوات التي اقترحها «حميدتي»، تشي بنيّة تفريغ هذا المسار برمّته من مضمونه.

دور «الرباعية»
لا يمكن فصل حالة الاضطراب الراهنة في المسار السياسي، والاتّهامات المتبادلة بين جميع أطرافه، عن التوجّهات الإقليمية والدولية الداعمة للتعجيل بالتسوية، وترك أبواب الأزمة مفتوحة مستقبلاً على جميع الاحتمالات، بل وترك السودان في حالة «فقدان توازن» مستدامة، تبدو أقرب إلى السيناريو الليبي، مع ضمان استمرار النهب الاقتصادي لمقدّرات البلد (لا سيما موارده الزراعية في الشرق واللوجيستيّة في البحر الأحمر)، وتوظيف موارده الأمنية في خدمة أجندات تلك الأطراف. ولعلّ ما يؤشّر إلى ذلك اعتبار «الرباعية» في بيان (26 آذار) أن الورشة المعنيّة بالملفّ الأمني والعسكري «مجرّد بداية لعملية، ولا يمكن توقّع توصّلها إلى خطط بعيدة الأجل»، وتشجيعها المشاركين على «التركيز على بناء إجماع أدنى ضروري حول رؤية بعيدة الأجل، والخطوات التالية لتكوين حكومة مدنية انتقالية جديدة»، على أن يقود هذه العملية مجلس الأمن والدفاع الوطني برئاسة رئيس الوزراء، وأن «يظلّ اتفاق جوبا للسلام نقطة رجوع أساسية». ويتّضح من هذا البيان أن الجدل الراهن حول آلية دمج «الدعم السريع» وجدوله الزمني، سيستمرّ إلى ما بعد توقيع الاتفاق النهائي، وأن ولاية رئيس الوزراء المرتقَب - بغضّ النظر عن اسمه - على الملفّ ستظلّ شكلية تماماً في ما سيتبقّى من المرحلة الانتقالية، سواءً عامين أم أكثر.

خلاصة
يرجَّح توقيع الاتفاق السياسي النهائي في 6 نيسان المقبل بصياغاته الحالية المنقوصة، والجنوح إلى تأجيل الملفّات الحسّاسة غير المكتملة، مِن مِثل توحيد القوّات المسلّحة، وتقييم «اتفاق جوبا»، وتكوين المجلس التشريعي، إلى مرحلة لاحقة ومن دون ضمانات ملموسة بالالتزام بإجراء انتخابات وطنية عامة وشاملة وغير إقصائية، بل ومع توقّعات بعودة سياسات الإقصاء عبر تفعيل «لجنة إزالة التمكين» (كأحد أبرز وعود الاتفاق السياسي)، وتصعيد الصدام مع قوى الإسلام السياسي سعياً إلى تحجيم حظوظها في أيّ انتخابات مقبلة حالَ الاضطرار لعقدها.