ليس في ما أجراه رئيس الإمارات، محمد بن زايد، من تعيينات في مناصب عليا في الدولة أيّ جديد على الخليج. فهذا الحاكم المهجوس بالخوف، مِثله مِثل غيره من طبقة الحكّام الجدد في المنطقة كلّها، صار يتوجّس حتى من إخوته الأشقّاء، ولا يقرّ عينه إلّا الابن، مستعيداً الحسّ القَبَلي الغريزي لحكم بلاد تتغنّى اليوم بالمشاركة في غزو الفضاء عبر أحد أبنائها الذي يقيم في محطّة الفضاء الدولية، كما بمنافسة نفسها برفْع المباني الزجاجية لتصل حدود السماء، في شرق أوسطٍ لم يَعُد أحد فيه قادراً على أن يضع حجراً على حجر.وتنظيف البيوت الداخلية لأُسر الحكم أَصبح اليوم هو «الترند» في الخليج. فهذا الجار الكبير، ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الخائف والمخيف في آن، لا يفتأ، منذ ست سنوات، يُصدر، باسم أبيه، الأوامر الملكية تلو الأخرى، لإزاحة مصادر التهديد أينما وُجدت، بدءاً بـ«كبارية» الأسرة، وصولاً إلى كلّ مَن يمكن أن يأتي بحركة، من رؤوس الأجهزة الأمنية، حتى آخر رجل أمن في أبعد ناحية من نواحي المملكة، مروراً بجهاز القضاء الذي طهّره من عتاة الوهابيين، حتى لو كانوا من المتملّقين له، ثم إلى كبار رجال المال والأعمال وغيرهم.
احتاج الأمر إلى أقلّ من سنة منذ تولّيه الرئاسة رسمياً، حتى يُبعد ابن زايد أشقّاءه الذين تقاسم معهم الحكم، من طريق الخلافة، مخالفاً الخط الذي رسمه والده، زايد بن سلطان آل نهيان، والذي ضمن له من خلاله، الرئاسة، وإن كان وزّع على هؤلاء الأشقاء جوائز الترضية التي استعملها بدورها لمزيد من تركيز السلطة في أبو ظبي، على حساب الإمارات الأخرى، ولا سيما دبي. وبلا شكّ، كان أحد المستهدَفين في التعيينات الأخيرة، نائب رئيس الدولة حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، من خلال تعيين منصور بن زايد نائباً آخر للرئيس. ومع ذلك، يبقى هذا أهون الشرور بالنسبة إلى حاكم دبي من بين الأشقاء الآخرين، لكون منصور متزوجاً إحدى بناته، ما قد يساعد في الإبقاء على الصيغة القائمة التي توحي بشراكة ما بين أبو ظبي ودبي ولو من الموقع الدوني للثانية، عبر ثنائية بين ولي عهد أبو ظبي الجديد ونظيره في دبي، حمدان بن محمد بن راشد. فهو يدرك أن سرّ قوّة دبي هو ارتباطها بأبو ظبي، ولذا صار من بين أدواره، منذ زمن، نَظْم قصائد المديح في ابن زايد، وآخرها قصيدة تلت التعيينات الأخيرة وعبّر فيها عن رضاه بقسمة منصب نائب الرئيس مع صهره، تقول في أحد أبياتها «وحَط جنبي اللي على الشدّة يعين.. نعم منصور الذي بالجهد زاد».
ودبي كانت قد فقدت بالفعل الكثير من بريقها عندما احتاجت إلى مساعدة مالية مباشرة من أبو ظبي الغنية بالنفط خلال أزمة 2008 الاقتصادية، عندما كان نموذجها القائم في جزئه الأكبر على القطاعَين العقاري والمالي، ينهار تحت تأثير تلك الأزمة. وهي اليوم أحوج للاحتماء في ظلّ أبو ظبي، في زمن الصراع على الأدوار الذي يطحن الخليج، وأبرزه النزاع المرير، لكن المكتوم، بين ابن زايد وابن سلمان. ولذا، ليس أمام ابن راشد إلّا أن يَقبل بتلك الخسارة الإضافية لآل مكتوم الذين كان منصب نائب الرئيس حكراً عليهم وحدهم منذ تأسيس الدولة، وهو منصب يبقى شرفيّاً إلى حدٍّ كبير، إذ لو كان ذا صلاحيات حقيقية، لكان حاكم دبي صار الرجل الأول في النظام خلال مرض الرئيس الراحل، خليفة بن زايد، الذي أقعده ثماني سنوات كاملة قبل وفاته العام الماضي.
تنظيف البيوت الداخلية لأُسر الحكم أصبح اليوم هو «الترند» في الخليج


أمّا الإمارات الخمس الأخرى، فليس لها، في ظلّ التعيينات الجديدة، سوى المزيد من التهميش، إذ صار دورها يقتصر على المصادقة على قرارات ابن زايد في المجلس الأعلى للاتحاد الذي يضم حكّام الإمارات السبع، والمباركة والمبايعة والتهنئة بالأعياد. فالنصّ الدستوري الخاص بالمداورة على الرئاسة كل ستة أشهر بين الحكام السبعة، لم يطبّق أبداً منذ تأسيس الدولة عام 1971، بسبب القوّة الاقتصادية لأبو ظبي وطغيان شخصيّة زايد.
لكن أكثر المستهدفين بتعيين خالد، هم الأخوة الأشقّاء لابن زايد، الذين مثّلوا حلقةً هيمنت بشكل كامل على السلطة منذ سنوات طويلة. وعلى رغم أن التعيينات تتضمّن توزيعة أخرى لتلك المناصب هدفها عمليّاً إرضاء هؤلاء، مثل تعيين منصور رئيساً لصندوق «مبادلة»، وطحنون رئيساً لـ «جهاز أبو ظبي للاستثمار»، وهما الصندوقان السياديان الأساسيان في الإمارات، إلّا أن تعيين خالد وليّاً لعهد أبو ظبي يبعدهم جميعاً عن مسار الرئاسة، ويَحسم الأمر لمصلحة الابن. ويستفيد الرئيس الإماراتي في إجراءاته من أن دولته ما زالت فتيّة جداً حتى تكون آلية الخلافة فيها واضحة وآمنة، وهو الرئيس الثالث لها منذ التأسيس، بعد أخيه غير الشقيق الراحل خليفة، لكنه عملياً الرئيس الفعلي الثاني، بعد والده، كونه كان الرجل القوي في النظام، لا فقط بسبب مرض الرئيس السابق، بل لأن أبناء فاطمة بنت مبارك الكتبي، الزوجة الثالثة والمفضّلة لزايد، كانوا يسيطرون على مفاصل الحكم منذ أيام والدهم، ولم يكن خليفة إلّا صورة يَحكمون من خلفها مراعاةً للتقاليد. فلو كان خليفة الذي تولّى منصبه بعد وفاة والده عام 2004، رئيساً فعلياً في يوم من الأيام، لعيّن أحد ابنيه سلطان أو محمد وليّاً لعهد أبو ظبي. ولذا، فإن المرجّح أن تكون التعيينات الجديدة مجرّد خطوة أولى في مسار طويل سيتمّ في خلاله إضعاف الأشقّاء أكثر، إذ ما زال لدى ابن زايد الشاب نسبياً (62 عاماً) متّسع من الوقت لاتّخاذ خطوات تكميلية أخرى نحو تحقيق الهدف المرسوم منذ الآن.
الأهم في «النفضة» التي أجراها رئيس الإمارات أنها تحصل في ظلّ خلافات عميقة له مع ابن سلمان، تشمل ملفّات كثيرة من ضمنها اليمن والنموذج الاقتصادي الذي يريد الأخير انتزاعه من الإمارات، ضمن «رؤية 2030» التي تقضي بتطوير المملكة على الطريقة الإماراتية. إلّا أن تلك الخلافات تقع تحت مظلّة عامّة هي صراع على النفوذ في المنطقة، وحتى على مستوى العالم، من خلال استخدام الثروات. فبعد أن كان ابن زايد عرّاب ابن سلمان في استيلائه على السلطة في السعودية، تصرّف الأخير بطريقة استيعابية، إزاء التعيينات الأخيرة، مهاتفاً جميع المعيّنين الجدد، وكأنه يريد أن يقول لهم: «أنا الأخ الأكبر» في الخليج.