بين الحرب واللاحرب مضى اليومان اللذان فصلا بين تهدئة الأيام الثلاثة التي انتهت الجمعة الماضي، وبين تهدئة من المقرر أن تبدأ منتصف هذه الليلة لإعطاء فرصة أخيرة للجهد السياسي من أجل استكمال المفاوضات عبر الوسيط المصري. خلال هذين اليومين عملت المقاومة على قصف مستوطنات غلاف غزة بمدى لا يزيد على 30 كلم، ولم ينسحب وفدها الفلسطيني من القاهرة، ما يعني منذ اللحظة الأولى أنها تركت مجالاً للسياسة، مع تهديدها الواضح بقدرتها على إشعال المعركة مجدداً، وصولاً إلى حرب استنزاف. في المقابل، لم تخفف إسرائيل غاراتها، لكن عدد الشهداء كان أقل من المعدل اليومي خلال أيام الحرب.
ولا يمكن إنكار أن الوضع القائم ليس مريحاً لأي من الجانبين؛ فإسرائيل ارتاحت من فاتورة الخسائر الكبيرة بعدما سحبت جنودها من البر وضمنت ألا ضغوط دولية ستمارس عليها لوقف الحرب، لكنها أيضاً تواجه مشكلات كبيرة في جبهتها الداخلية، ولم تحقق أياً من أهدافها المعلنة. أما المقاومة فلا يزال مجتمعها ينزف ومعاناته تطفو على سطح الخراب الكبير الذي صنعته إسرائيل، ما يلزمها بإنهاء المعركة في أقرب وقت ممكن مع الخروج بتطبيق اشتراطاتها.
وكان الجمود السياسي قد أشعر الفلسطينيين أنهم بدأوا يفقدون المبادرة وينتظرون الردود الإسرائيلية، خاصة مع فقدان السند العربي الحقيقي الذي لا يتعدى دور الوسيط في أحسن أحواله، حتى جاءت تهديدات المقاومة ثم العودة إلى الجهد السياسي للتأكد من أن آخر الخيارات قد نفدت.

حاول نتنياهو الظهور كمن يفرض شروطه على الفلسطينيين لإعادة التفاوض


في المقابل (القاهرة، أحمد جمال، إيمان إبراهيم)، أعطت هذه المعادلة مجالاً للوسيط المصري للعمل على تهدئة جديدة، خاصة بعدما أعلن الإسرائيليون أنهم لا يحبذون التفاوض تحت النار، كذلك تقول مصادر من القاهرة إن الاحتلال قدم تنازلاً بإمكانية زيادة مسافة الصيد في البحر إلى 6 أميال وفتح كل المعابر مع غزة مع تشديد الرقابة عليها، على أن تعجّل مصر في الاتفاق على صيغة لفتح معبر رفح في صيغة قريبة إلى اتفاقية 2005. وتذكر المصادر لـ«الأخبار» أن هناك ضغطاً لتنازل الوفد الفلسطيني عن البحث في مسألة الميناء البحري خلال هذه المرحلة، وذلك بعد ساعات من إعلان الوفد على لسان رئيسه عزام الأحمد (فتح) رفضه أي شروط لعودة الوفد الإسرائيلي إلى القاهرة «وإلا فإننا سنغادر إلى فلسطين للتشاور مع القيادة والرئاسة». ومن المقرر أن يعمل الوفد الإسرائيلي خلال الأيام الثلاثة المقبلة على صياغة ردّ مكتوب على المطالب الفلسطينية يسلمه للمخابرات المصرية.
في سياق متصل، كشفت المصادر المصرية أن من الحلول المطروحة لإنهاء الأزمة تحويل قضية إعمار غزة إلى عهدة الجامعة العربية أو الاتحاد الأوروبي، لضمان ألا يكون لسلطة حركة «حماس» إشراف على الإعمار، ما يجعل الطرف الإسرائيلي مطمئناً إلى مصير هذه المواد بعد اشتراطه ألا تستخدم في الأنفاق، وإن كان هناك من يتحدث عن محاولة مصرية للاستفادة من مشاريع الإعمار في الجانب الاقتصادي.
وتشير المصادر نفسها إلى تثبيت رئيس المخابرات المصرية، محمد التهامي، شرطه رفض تدويل معبر رفح المصري «واستبعاد كل من الاتحاد الأوروبي وإسرائيل من التدخل في عملية الإشراف على المعبر وحصرها بالسلطة الفلسطينية». ومن المؤشرات الأولية التي تنبئ باستعداد الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي للاستمرار في المفاوضات، وجود المبعوث الخاص لوزير الخارجية الأميركي، فرانك غراهام، قادماً من ألمانيا، للمشاركة في المباحثات إلى جانب فرانك لوانستين الذي وصل مصر قبل أيام.
على الجانب الإسرائيلي (علي حيدر)، يمكن القول إنه بعد الانتكاسة السياسية والمعنوية التي تلقاها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، في أعقاب استئناف المقاومة إطلاق الصواريخ، حاول الأخير المناورة لكسب الموقف، وذلك بتأكيده رفضه التام إجراء المفاوضات تحت النار، ما جعله يبدو كمن يفرض شروطه على الطرف الفلسطيني.
ونتيجة فقدان ثقة مستوطني غلاف غزة بالقيادة الاسرائيلية، أراد نتنياهو أيضاً أن يظهر حرصه على أمنهم، فضلاً عمّا لهذا من آثار مفترضة ضد قوة الردع الإسرائيلية من منظور اليمين، وهو الخط الذي يحرص الرجل على ألا يبدو أمامهم كزعيم ضعيف ومتردد. في المقابل، فإن الفرق الجوهري بالنسبة إلى المقاومة هذه المرة أنها بعد استئناف إطلاق الصواريخ على خلاف التقديرات السياسية والاستخبارية الإسرائيلية، اكتسبت المزيد من المصداقية، حتى في الوسط الإسرائيلي نفسه، فصار يأخذ تهديداتها على محمل الجد، رغم حجم التضحيات الكبيرة. وفي ظل التساؤل الذي يخيّم على الساحة الإسرائيلية إزاء قرار استئناف إطلاق الصواريخ، وهل كان يهدف إلى شن حرب استنزاف متواصلة أم لتعزيز الموقف التفاوضي في القاهرة، أكد نتنياهو، خلال جلسة حكومته أمس، أن «حماس لن تستنزفنا ولن ندير مفاوضات تحت النار». ورغم أنه كان من الذين دعوا المستوطنين إلى العودة إلى بيوتهم، فإنه زعم أنه «لم نعلن انتهاء عملية الجرف الصامد في أي مرحلة، وهي ستتواصل حتى تحقيق أهدافها، وذلك سيستغرق وقتاً».
في السياق نفسه، كرر وزير الجيش، موشيه يعلون، الموقف الذي حدده رئيس وزرائه، مؤكداً أنه «في حال كانت حماس تظن أنها تستنزفنا فهي مخطئة». على خط مواز، واصل أصحاب الشعارات التي تدعو إلى الذهاب حتى النهاية، إطلاق مواقفهم الداعية إلى إسقاط حكم «حماس» والحسم العسكري معها، كوزير الخارجية أفيغدور ليبرمان.
بدوره، رأى وزير الشؤون الاستخبارية، يوفال شطاينتس، أن «إسرائيل لا تستطيع التسليم بدولة فلسطينية مسلحة»، مضيفاً أن «تجريد القطاع من السلاح شرط ضروري ليس لإزالة الحصار فحسب، بل لأي تقدم مستقبلي في مسار السلام». وفي محاولة لتوجيه رسالة ردع وضغط على الطرف الفلسطيني، أوضح شطاينتس أن «الفصل البري في معالجة الأنفاق انتهى، لكن العملية متواصلة. وفي حال استمرت فسندرس توسيع العملية برياً وجوياً».
من جهته، رأى وزير الحرب السابق شاؤول موفاز أن «الجرف الصامد» أخفقت «ولم تحقق أهدافها». وقال إن المقاومة نجحت في جر إسرائيل إلى حرب استنزاف. ولفت موفاز إلى أن «الواقع في هذه الأيام يؤكد حالة فقدان ثقة السكان، وهذا ما يجب أن نستعيده»، مشيراً إلى أن «العملية العسكرية كان من المفروض أن تعيد الثقة والأمن إلى السكان، لكن الشعور بالأمن لديهم لحق به أذى خطير جداً».
(الأخبار)