غزة | طلعوا يلعبوا، لبسوا ضحكاتهم في العيد وفتحوا الابواب، اتسع الشارع خصيصاً لخطواتهم التي اشتاق إليها. لم يخطر ببالهم أن «المرجيحة» ستأخذهم من أقصر طريق الى الجنة! وفي عتمة مساء ذلك اليوم، كتبوا رسائل كثيرة. أطلوا من السماء ليبعثوها. تقول الرسائل «يمّا لا تخافي أمان الله مغطينا ومدفينا. يما الليل هان لطيف وما بيخوِّف: لا صوت طيارة يرعبنا، ولا ريحة غاز تخنقنا. يمّا.. آخ لو نقدر نبعتلك ريحة مسك من هان لتعرفي قديش إحنا بنعمة.
صحيح ما صرفنا العيدية لأنو خبيناها.. شو بيعرفنا؟ قلنا لبكرا انشا الله. منبقى منطلع وبعدو منتمرجح ونشتري ألعاب حلوة بالعيد. خلاص يما. خديها واصرفيها. اشتري الشال هاداك اللي عجبك وكان نفسك فيه. وأبويا؟ بوسيلنا راسه واحكيله إنو اشتقنا للمّتو وجمعتنا على ضو شمعة بالدار اللي كان، وحكاويه عن زمان. والله، كان ينسينا الحرب واللي بيصير..
إحنا شو عملنا غير إنو قلنا هاد عيد نعيد فيه ونلعب؟ نصنا ركب المرجيحة ونصنا التاني كان بيستنى دوره. كان واحد صوته عالي: طيرونا للسما وحموا المرجيحة! وطرنا»..
أحمد. هل تتذكر ما قلته لي أول الحرب حين وجدنا عصفوراً قتل بالقصف؟ قلت: «كائن بريء شو ذنبو؟ لا رمى حجر ولا قذف صاروخ!». حكينا كتير يومها عنو، وأنا بكيت عليه. ما كان أحلاه: كان رمادي اللون وأبيض. كان يشبه العصفور الذي كان عنا. عندما أحسست بالصاروخ يقترب منّا حين كنا في المتنزه، تذكرته! أحمد. لقد رأيته بعيني هاتين.. كان يطير ثم فجأة هوى من عل وسقط أرضاً. رأيته بعيني ثم سال دمه على رأسي.
بعد قليل لم أعد أحس بنفسي أنا أيضاً. لم أعد أجدني. أو بالأحرى وجدتني والدم يحيط بي من كل جانب. بكل ناحية كل أصحابي وإخوتي ارتموا على الأرض.. كان هناك رأس قد طار ليرتمي بجانبي تماماً، ورِجل مجهولة لا تزال مدماة بذكرى بقيتها.
أغمضت عينيّ وانتباني خوف. خفت.. خفت كثيراً. اختفى صوتي ولم يكن باستطاعتي حتى أن أصرخ أو أنادي أحدهم لنجدتي. كنت لا أزال صاحياً وقادراً على الإبصار قبل صعودي الى السماء. رأيت أن العتبة التي نصبت عليها المرجيحة صارت تشبه لون أرض المسلخ الذي أخذني أبي معه إليه فجر عيد الأضحى الماضي.
يما؟ لمَ لا أنسى شيئاً؟
إني أتذكر حتى برد ثلاجة المستشفى. برد جليدي لم أستطع معه أن أحرك شفتي لأقول لك وأنت تودعينني بثوب الصلاة: «ليش يما بننحط بتلاجة قبل الكفن والقبر؟ لما أنا عمري عشر سنين وما عشت إشي بحياتي ليش أموت هيك؟ ليش ما بتيجي عندي تنامي بالليل يمّا؟ صحيح إنو ما في برد ولا حر هان، بس أنا اشتقتلك يمّا»!