البارحة، كنا قد عزمنا مع مجموعةٍ من الأصدقاء على تصوير فيلمٍ فلسطيني قصير، كانت مدّة الفيلم لا تتجاوز عشر دقائق. بطبيعة الأحوال، ولأنّه فيلمٌ فلسطيني كان من الطبيعي أن يكون التصوير –إلى حدٍ ما- داخل المخيّمات، لأسبابٍ كثيرة أبرزها أنَّ المخيّم هو الحاضن للوجود الفلسطيني في لبنان.
تحضّرنا للرحلة، كان من الطبيعي أن نأخذ أذوناتٍ من أشخاصٍ كثر إذا ما أردنا التصوير في المخيّم، وهو أمرٌ بديهي/طبيعي في بلدٍ مثل لبنان، نظراً الى الأوضاع الأمنية وسواها ما يحكى أو لا يحكى عنه. فعلاً حصلنا على الأذونات، وقررنا التحضّر للتصوير. كانت أماكن التصوير المعدّة في مخيّمي شاتيلا وبرج البراجنة، الأوّل كونه حاضنة لا بأس بها لمجزرة حُكي عنها الكثير ولا زالت جراحها تنزف حيث أنه لم يعاقب أحد القتلة فيها حتى اللحظة، والثاني لأنّه أكبر مخيمات العاصمة اللبنانية بيروت.
كانت أماكن التصوير التي ارتأيناها أماكن موحية، وأعني بذلك مثلاً حائطاً عليه لوحةٌ تمثّل القدس، أو "غرافيتي" تحكي العودة، أو أشياء شبيهة، ولأنّ معظمنا يعيش في المخيّم أو قريب منه كان من الطبيعي أن نعرف أين نصوّر للحصول على تلك المشاهد الموحية في الفيلم. باختصار، وصلنا إلى مخيّم شاتيلا، ناهيك عن أنَّ الوصول كان شاقاً للغاية بالسيارة، نظراً الى ازدحام المكان بعربات الخضار والباعة المتجولين، طبعاً هنا يحضر في ذهنك أن هذا المخيّم هو بحسب كل وسائل الإعلام اللبنانية/العربية/الغربية هو مخيّمٌ فلسطيني، لكن من نظرةٍ واحدةٍ يمكنك أن تعرف بأن من حولك ليسوا جميعاً فلسطينيين. تعرف ذلك من أسماء المحلات إلى الصور على الحائط إلى جميع التفاصيل. ليست في الأمر مشكلة بالتأكيد فالفقر والحرمان والمصائب تجمع الناس جميعهم وتلفهم حول بعضهم بإتقان كجديلة.
كانت الساحة حيث نريد أن نصوّر تمتلك نوعاً من الرسومات كان شباب "كتيبة خمسة" (فرقة الراب الفلسطينية المعروفة) قد رسموها سابقاً (وتحديداً "جزار" من الفرقة)، طبعاً كانت المفاجأة كبيرةً حينما وجدنا بأن الغرافيتي قد امتلأ بأوراق اعلانات متنوعة، ليس من تلك التي تضعها التنظيمات الفلسطينية للإعلان عن مناسباتها أو شهدائها، بل إعلاناتٌ مبوبة من نوع: أبو محمد تصليح غسالات، أبو رشدي لتنظيف المجاري، سمير.. لتلميع البلاط، وسواها.
صدمنا قليلاً في البداية لكننا قررنا أن ننتقل بالتصوير الى مكانٍ آخر، إذ إنَّ اللوحة الغرافيتي بدت مشوهةً تماماً مهما حاولنا نزع الإعلانات. بدأنا بعد ذلك بالتفتيش على مكانٍ آخر ينفع للتصوير، كانت كل الأماكن الأخرى تعاني من المصيبة نفسها، جميع اللوحات التي زيّنت حيطان المخيّم ولفترة طويلة باتت عبارة عن "مسرحٍ عبثي" للإعلانات الغريبة تلك. يعني مثلاً من الممكن أن ترى كلمات محمود درويش بهذا الشكل (مقرنة بإعلان مبوب): لنا وطنٌ من "أبو محمد لتصليح القازنات".
قررنا بعد ذلك التوجّه الى مخيم البرج، وهو كما أشار علينا أحد الشباب –ومن سكان المخيّم نفسه- فيه أماكن متعددة يمكننا التصوير فيها، وبالفعل وصلنا الى هناك. كانت حالة الحوائط في المخيّم هي ذاتها. استغربنا ونحن من سكان المكان (بغالبيتنا) كيف أننا لم ننتبه أبداً إلى حالة الحوائط قبل حاجتنا إليها؟ كيف لم ننتبه الى أن في المخيمين البيروتيين لا توجد "إشارةٌ حقيقيةٌ لفلسطين"! يعني مثلاً لا تمثال لقبة الصخرة أو لوحةٌ كبيرة تمثلها كما جرت العادة خلال سنواتٍ طوال، ليس هناك خريطةٌ فلسطينية كبيرة في مكانٍ ما، مرسومة على حائط معيّن؛ حتى أشعار محمود درويش وسميح القاسم التي زيّنت حوائط عدّة شوهت لأسباب كثيرة أقلّها الاعلانات. كان أمراً مدهشاً، لم نفهم بدايةً أن هذا التغيّر المخيف يحدث حولنا ولا نراه، ولا ننتبه إليه أبداً. كانت الحوائط أشبه بأي مكانٍ آخر وليست بمخيّم. أذكر مثلاً أنني قبل أعوامٍ خلت كنت أتباهى أمام أصدقائي بأن المخيّم مليءٌ بالصور "الغرافيتية" أو أنَّ "صور الشهداء" لها وحدها الحق بالتواجد هناك (فعلياً كان كثيرٌ من شباب المخيّم –في السابق- ينزعون أي اعلان عن حوائط المخيّم).
في الختام صوّرنا فيلمنا مستعيرين أثواباً فلسطينية وأعلاماً أحضرناها من منازلنا ومنازل أقارب ومعارف لنا من المخيّم ذاته، نثرناها على الحوائط، أعدنا قليلاً من ذكريات المكان إليه، وقبل بدء التصوير بثوانٍ وقفت عجوز تراقبنا ونحن جميعنا تقريباً نرتدي الحطات على أكتافنا، وقالت وهي تسير مبتعدة: "الله يرحم الختيار*".
*الختيار هو الإسم التحببي لياسر عرفات أبو عمّار.