بغداد | في كلّ الموازنات العراقية السابقة، كانت الأحزاب الكردستانية سبّاقة في إبداء الاعتراض والدخول في خلاف مع الحكومة المركزية بشأن نسبة حصّتها المالية والنفطية. والحال لا يختلف مع موازنة عام 2023، على رغم أن رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، مع تسنّمه منصب رئاسة الحكومة، خاض حوارات ومباحثات مطوّلة لتصفير الملفّات العالقة بين بغداد وأربيل. ومع هذا، لا تنحصر المشكلة في الخلاف مع الأكراد، بل تفوح رائحة محاصصة تريدها أحزاب مشارِكة في الحكومة للقبول بالتصويت بنعم. والإثنين الماضي، وافق مجلس الوزراء على مسوّدة قانون الموازنة المالية، التي أعلن السوداني أنه سيتمّ تكرارها أيضاً عامَي 2024 و2025 ضمن إطار منهاج حكومته لدعم الاستقرار المالي في البلاد. ويبلغ إجمالي النفقات للعام الجاري، 197.828 تريليون دينار عراقي (نحو 134 مليار دولار)، بعجز مقدَّر بـ63 تريليون دينار (43 مليار دولار)، علماً أن المشروع اعتمد على سعر 70 دولاراً لبرميل النفط، وهو سعر غير متحفّظ، ما يعني أن العجز يمكن أن يرتفع. وجاءت هذه الموازنة بعد تأخُّر إقرارها منذ نيسان 2021، وتعويضها بقانون «الأمن الغذائي»، وذلك نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية العنيفة التي حلّت بالبلاد في تلك الفترة، بينما أقرّ السوداني بأن أحد همّ أسباب تأخيرها هو التفاهم مع إقليم كردستان، وأيضاً إيجاد أرضيّة مشتركة للتوافق مع الأحزاب والكتل السياسية.على أن برلمانيين واقتصاديين يرجّحون أن مشروع قانون الموازنة سيفتح باب النزاع على مصراعَيه بين الكتل السياسية، إزاء توزيع مخصّصات المحافظات والتعيينات وحصص الأقلّيات، وكذلك الأحزاب الكردية. وفي هذا الصدد، اتّفق العضوان في اللجنة المالية النيابية، جمال كوجر وفيصل النائلي، في تصريحات إلى «الأخبار»، على أن الخلافات بدأت تَظهر على السطح حتى قُبيل وصول المشروع إلى مجلس النواب، ولا سيما بين الأطراف التي تريد ضمان حصص «مكوّناتها». ويقول كوجر إنه «في كلّ الموازنات السابقة، كُنّا نلاحظ أن النقاشات تحتدم قبل مرحلة إقرارها. الآن، بدأنا نشاهد الأحزاب السياسية تبدي اشتراطاتها مقابل تمرير الموازنة وعدم تعطيلها لوقت أطول». ويضيف: «باعتقادي، إذا لم تكن هناك اتّفاقات سياسية، لن تُمرَّر الموازنة خلال الأيّام المقبلة، وربّما يجد البرلمان صعوبة في ذلك. قد يحتاج الأمر إلى شهرَين وربّما أكثر لقراءة كلّ فقرات الموازنة والموافقة عليها، وربّما أيضاً ستكون هناك خلافات بين الكتل والأحزاب السياسية التي تريد ضمانات وتعترض على تأجيل مستحقّاتها أو تهميشها، وخاصة الكتل التي وعدت جماهيرها بتعيينات ومشاريع خدمية». من جهته، يعتقد النائلي أن «الخلافات ستكون كبيرة قبل مرحلة المصادقة، ولا سيما في قضية تمرير الموازنة لثلاث سنوات متتالية. سوف نشهد جدلاً بين الكتل السياسية. أمّا بشأن التصويت على الموازنة، فلا أعتقد أنها ستُمرَّر خلال شهر آذار ولا الشهر المقبل، وذلك بسبب وجود ملاحظات كثيرة على المسوّدة».
المصادقة على الموازنة لن تكون سهلة وسريعة من دون تحقيق إجماع سياسي


في المقابل، يرى المستشار المالي في الحكومة، مظهر محمد صالح، أن «الموازنة المالية راعت كلّ طبقات المجتمع، لكن للأسف الشديد، الأحزاب السياسية تظنّ أنها كلّما اعترضت أكثر وضغطت على الحكومة أكثر، حصلت على امتيازات أكثر». ويقول صالح، لـ«الأخبار»، إنه «مع كلّ موازنة، نسمع أصوات الأحزاب وهي تطالب باستحقاقات جماهيرها ومناطقها، وكذلك تريد نسبة أكبر من حجم الموازنة، لكن هذه المرّة، ربّما ستكون الاعتراضات أقلّ لأن السوداني اتّفق مع الكتل، ولا سيما الأحزاب الكردية، حتى لا تعترض وتشعر بالغبن والمظلومية كما تدّعي في كل مرّة، وأيضاً كانت هناك حصّة كبيرة للمحافظات الجنوبية ولا سيما البصرة، لِما لها من خصوصية». وأمّا بشأن تعدّدية سنوات الموازنة، فيوضح أنه «لا مانع لدى الحكومة في كلّ الأحوال من أن تُقدّم خططاً مالية سنوية لتقدير موازنات سنوات قادمة، ويُعتبر هذا جزءاً من عملية التنبّؤ بالمستقبل، لكن بشرط عرضها على مجلس النواب». كما يَتوقّع أن «تكون في الموازنة المالية لمسات فنّية جديدة تختلف عن سابقاتها، لكنها تحتاج إلى أيْدٍ أمينة تستثمرها بشكل صحيح، ولا تذهب في جيوب مافيات الفساد».
وفي الاتّجاه نفسه، يلفت الأكاديمي في كلّية الإدارة والاقتصاد في الجامعة العراقية، عبد الرحمن المشهداني، إلى أن «السوداني قبل أن يصادق على مسوّدة الموازنة، اتّفق مع جميع الأحزاب بشأن جميع فقراتها، ولذا فإن عملية تمريرها ستكون سريعة، لأن ائتلاف إدارة الدولة قادر على التصويت عليها من دون اعتراضات»، مضيفاً أن «السوداني راعى الجميع في الموازنة، سواء المحافظات الأشدّ فقراً في الجنوب أو المدن المحرَّرة التي فيها نازحون، وكذلك أقنع الأكراد وحَسم معهم مسألة النفط، وهي كانت الأكثر تعقيداً». وفي ما يتعلّق ببنود المشروع، يعتقد المشهداني أن الموازنة هي الأضخم في تاريخ العراق، مبيّناً أن «المشكلة هي أن جزءاً كبيراً منها نفقات تشغيلية للرواتب والأجور، أي بواقع 98 تريليون دينار، وهذا نتيجة التعيينات والحماية الاجتماعية للمتقاعدين». ويصف المحلّل السياسي، عبدالله الفتلاوي، من جانبه، الخلافات على مشروع الموازنة بأنها «بداية لصراع جديد على تقاسُم الحصص من قِبَل بعض الأحزاب السياسية»، معتبراً أن السوداني «تنازَل كثيراً لإقليم كردستان ولبعض الأحزاب حتى يرضيها وتبقى ساكتة على أداء الحكومة». ويرى أن «أغلبية الأطراف السياسية ستتقصّد عدم تمرير الموازنة سريعاً في البرلمان، وربّما ستُعاد المسوّدة من جديد إلى وزارة المالية ومجلس الوزراء لإجراء بعض التعديلات. وطالما هناك اعتراض، فإن إقرار المشروع لن يكون قبل ثلاثة أشهر على الأقلّ».