الحسكة | تشهد مناطق شمال شرق سوريا، في محافظتَي حلب والحسكة وصولاً إلى ريف حلب الشمالي الشرقي، انقطاعاً شبه تامّ في التيّار الكهربائي، مترافقاً مع توقُّف العمل في سدّ تشرين، واستمراره في سدّ الفرات بالحدّ الأدنى، وذلك بسبب انخفاض منسوب النهر إلى مستويات قياسية، تنذر بكارثة في قطاعات مياه الشرب والزراعة والريّ، تتهدّد حياة نحو 6 ملايين شخص يعيشون في تلك المناطق. وعلى رغم انتشار أنباء عن فتْح تركيا مياه سدّ أتاتورك باتّجاه الأراضي السورية، وارتفاع الوارد المائي من جرّاء هذه الخطوة، إلّا أن الواقع يبدو مغايراً تماماً؛ إذ يستمرّ الأتراك في تقليص حصّة كلّ من سوريا والعراق إلى ما بين 200 و250 متراً مكعّباً في الثانية، بل إلى ما دونها في بعض الأحيان. وأثّر هذا التقليص على توليد الطاقة الكهربائية في العنفات المائية في سدَّي تشرين والفرات، واللذَين يُعتبران المصدرَين الوحيدَين، إلى جانب معمل غاز السويدية، في التغذية الكهربائية لعموم مناطق سيطرة "قسد"، إلى جانب مناطق أخرى خاضعة لسيطرة الحكومة في ريفَي الرقة وحلب. ومع وصول الوارد المائي إلى مستويات متدنّية، وتصاعُد المخاوف من ارتفاع نسبة التلوّث في ما تَبقّى من مياه الفرات، بادرت إدارة السدَّين إلى اتّخاذ إجراءات فنّية، من خلال إيقاف عمل «تشرين» بشكل تامّ لمدّة أسبوع في مطلع الشهر الحالي، وتخفيض عمل العنفات في «الفرات» إلى الحدّ الأدنى. ويبيّن محافظ الرقة، عبد الرزاق الخليفة، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «إيقاف سدّ تشرين عن العمل، هو مرحلة مؤقّتة وضمن تدابير فنّية بحت، حتى لا نقع في المحظور»، في إشارة إلى احتماليّة وصول مياه النهر إلى مستويات ميْتة، نتيجة توليد الكهرباء من العنفات الموجودة في السدَّين. ويؤكد الخليفة أن «عمليات ضخّ مياه الشرب وسقاية المزروعات من مشاريع الريّ في أرياف الرقة، لم تتأثّر مطلقاً بالإجراءات التي اتّخذتها الإدارة»، مضيفاً أن «الأولوية دائماً هي لتأمين مياه الشرب للأهالي، ومن ثمّ توفير مياه لسقاية المزروعات، كأولوية أكثر من توليد الكهرباء». بدورها، تتّهم مصادر من «الإدارة الذاتية» الكردية، تركيا، بـ«اتّباع سياسة تعطيش في مناطقها، وضرْب هذه الأخيرة اقتصادياً، سواء من خلال تخفيض الوارد المائي في نهر الفرات، أو الاستمرار في قطْع المياه عن نحو مليون مدني في الحسكة وأريافها»، معتبرةً أن «الاحتلال يريد سلْب السكّان في المنطقة وارداتهم من المحاصيل الزراعية الصيفية والشتوية، وهو ما سيتسبّب بموجات تهجير جماعي، إذا فقدوا هذه الواردات».
يستمرّ الأتراك في تقليص حصّة كلّ من سوريا والعراق إلى ما بين 200 و250 متراً مكعّباً في الثانية


وترتبط سوريا مع تركيا باتّفاقية وُقّعت بين البلدَين في عام 1987، تعهّدت بموجبها أنقرة بتمرير حصّة سنوية مقدارها 6.6 مليارات م3 إلى سوريا، و9 مليارات م3 إلى العراق، فيما حصّة تركيا تصل إلى 15.7 مليار م3. إلّا أنه منذ شهر شباط من عام 2021، بدأت تركيا بتخفيض الوارد المائي المخصَّص للدولتَين الجارتَين، إلى أقلّ من النصف، ما ترك تداعيات خطيرة على قطاعات مختلفة فيهما، ترتبط مباشرةً بمستوى جريان النهر. وفي هذا المجال، يشير الخبير الجيولوجي، عزيز ميخائيل، في تصريح إلى «الأخبار»، إلى أن «غزارة النهر لم تتغيّر منذ أكثر من عامَين، مع تخفيض تركيا الوارد المائي إلى ما دون الـ250 م3 في الثانية، وهي غزارة غير كافية، ولا تلبّي الاحتياج في كلّ من سوريا والعراق»، مضيفاً أن «مياه النهر شُيّدت على أساسها مشاريع سقاية وريّ يستفيد منها نحو 900 ألف هكتار من الأراضي الزراعية، تَضرّر منها نتيجة الإجراء التركي الأخير نحو 640 ألف هكتار سنوياً بمحاصيل استراتيجية وخُضر». ويحذر ميخائيل من أن «استمرار الوارد المائي بواقعه الحالي، سيؤدّي إلى الجفاف وخروج مساحات زراعية كبيرة من الاستثمار الزراعي، وتحوُّل هذه المساحات من مرويّة مضمونة الإنتاج إلى بعلية تعتمد في إنتاجها على مياه الأمطار».
بدوره، يذهب أستاذ التربية في كلّية الهندسة المدنية في الحسكة، داوود سليم بك، إلى أن «ما يحصل يهدّد بانعدام الغطاء النباتي، ما سيؤثّر حتى في المناخ، ويؤدّي إلى انعدام المراعي للثروة الحيوانية، ويشكّل خطراً اقتصادياً كبيراً على كلّ من سوريا والعراق»، منبّهاً إلى أن «خطر التصحّر يهدّد كلّ المساحات التي كانت تعتمد على مياه نهر الفرات، في الحصول على مياه الشرب أو سقاية المزروعات». وتبرّر تركيا هذا التراجع الحادّ في الموارد المائية، بموجة جفاف كبيرة تشهدها المنطقة، أثّرت على منسوب نهر الفرات وحصص الدول الثلاث منه. لكنّ سليم بك يؤكّد أنه «منذ سبعينيات القرن الماضي، شُيّدت خمسة سدود على نهر الفرات، أهمّها سدّ أتاتورك الذي دخل في الخدمة في عام 1990 بطاقةٍ تخزينية هائلة تصل إلى 48 مليار متر مكعّب، بالإضافة إلى شروع تركيا في بناء سدَّين إضافيَّيْن عليه»، مشيراً إلى أن «منسوب نهر دجلة بدأ يتأثّر أيضاً للسبب نفسه، ما يهدّد بانخفاضه إلى مستويات قياسية، في حال استمرار تركيا في بناء سدود عليه، أحدثها سدّ أليسو الذي شُيّد نهاية العام الفائت».