يبدو مباغتاً تماماً بقاء مسألة فلسطين مضلّلة بشكل كبير في أفكار النخب الأفريقية وأبرز قادتها طوال أغلب القرن الفائت (على الأقل حتى ربعه الأخير)، وعدم ملاحظة أن الوضع المستمر راهناً لدى نخب أفريقية حاكمة هو بالأساس نتاج لهذه الأفكار التي باتت شبه يقينية. وتدفع النظرة المدققة لتكوين النخب الأفريقية في الشتات أو على الأرض الأفريقية لاحقاً نحو تساؤلات عن تقاربها - بشكل عام - مع مبادئ الصهيونية كحركة «عودة» للشتات إلى «الوطن الأم»، ووجود تشابه صادم في عدم الاكتراث بأهل البلاد (الفلسطينيين في فلسطين أو الأفارقة ولا سيما في غرب أفريقيا تاريخياً) وتفكك مجتمعاتهم في مواجهة آلة «الاستعمار» المدعومة من الخارج. ورغم أن هذه الرؤية تنطبق على عدد من الآباء المؤسسين لأفكار الوحدة الأفريقية مثل إدوارد ويلموت بلايدن (ت. 1912)، وماركوس جارفي (ت. 1940)، وغيرهما، فإن شمولها عدداً من أبرز مفكري مناهضة الاستعمار والعنصرية ودعاة الثورة الأفريقية «الاشتراكية»، مثل إيمي سيزار وفرانز فانون، يوضح مدى عمق تأثير التكوين الاستعماري، غير الواعي ربما، على هذه النخب، في ما يمسّ مسألة القضية الفلسطينية، بل والتعاطف مع التجربة «اليهودية» باعتبارها «نصّاً مقدساً» لا يمكن تغيير بنية سرده.
إيمي سيزار وفانون: فلسطين «أرض بلا شعب»!


كان لإيمي سيزار، المفكر الأفريقي البارز بجزر المارتينيك بالبحر الكاريبي (1918-2008)، تأثير كبير وتكويني على فرانز فانون (1925 - 1961) لريادته «الزنوجة» (التي صكّ سيزار مفهومها مبكراً)، وكونه معلم فانون في عامه الأخير في المدرسة الثانوية (الليسيه)، وما عرف عن سيزار وقتها بهجومه على الحضارة الغربية بشكل عام والثقافة الفرنسية بوجه خاص ومقولته الشهيرة (لاحقاً) أن أمة «تستعمر، وحضارة تبرّر (هذا) الاستعمار - ومن ثم تفرضه - هي حضارة مريضة، حضارة موبوءة أخلاقيّاً». كما بدأ فانون، في عمر الـ 17، في مطالعة دورية «La Revue Tropique» التي أصدرها سيزار في عام 1942 وأسهمت بشكل لافت في إثارة الوعي بالهوية السوداء في جزر المارتينيك (Bulhan, Hussein, Frantz Fanon and the Psychology of Oppression, 1985, p. 26). ويتّضح هذا التأثر في تمثّل فانون مشاعر أستاذه سيزار (التي استدعاها من ذاكرة حملة الأخير الانتخابية في مدينة فورت دو فرانس 1945): «عندما أفتح الراديو، عندما أسمع عن إعدام الزنوج في أميركا، أقول لقد كذبوا علينا: هتلر ليس ميتاً؛ وعندما أفتح الراديو، وأعلم أن اليهود قد أهينوا، وسيئت وجوههم، واضطهدوا، أقول لقد كذبوا علينا: هتلر ليس ميتاً؛ وأخيراً عندما أفتح الراديو وأسمع نبأ بدء العمل الإجباري في أفريقيا وتقنينه، أقول لقد كذبوا علينا قطعاً: هتلر ليس ميتاً» (Fanon, Black Skin, White Masks. 1952, p. 66).
ولم يكن سيزار وحده المؤثر في رؤية فانون «المضلّلة»، أو المغيّبة عمداً، للقضية الفلسطينية؛ بل يمكن أن يتضح من تتبع أفكاره وجود سلسلة من «المؤثرين» في صياغة هذه الرؤية على النحو الذي انتهت إليه دون مراجعة تذكر. وعلى سبيل المثال فقد تأثر فانون أيّما تأثر بالفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ومؤلفه Anti-Semite and Jew (1944) (الذي استخدم بدوره فكرة هيغل عن جدل السيد - العبد وفي سياق نموّ تأثير هيغل في ذلك الوقت على مجمل الفكر الفرنسي). كما تماهى فانون في مؤلفه (Black Skin, p. 64) مع أسس فرضيات معاداة السامية «التقليدية» وربطها بالكثير من التفسيرات المنتشرة في مؤلفه، ومنها نقله باقتناع تام مقارنة عالمة النفس الفرنسية مود مانوني ذهنية «معاداة السامية» والميل إلى معاملة اليهودي ككائن أدنى وخبيث مع اعتداء البروليتاريا البيضاء على البروليتاريا السوداء في جنوب أفريقيا وإن تدارك بعده نتاجاً للبناء الاقتصادي بالأخيرة.
وبالتزامن مع تصاعد العنف الصهيوني في فلسطين في أربعينيات القرن الماضي نحو إقامة الكيان، لاحظ فانون، برؤية محدودة للغاية وربما كانت مفهومة في وقتها، أن النازية حوّلت كل أوروبا إلى مستعمرة حقيقية ومن ثم فقد طالبت حكومات الدول الأوروبية العديدة ألمانيا بتعويضات مادية كبيرة، واصطفت أوروبا بعد الحرب وراء شعار «على ألمانيا أن تدفع الثمن»، ولا سيما لدولة إسرائيل. مضيفاً إنه يرى أن الدول الإمبريالية سترتكب الخطأ (الألماني) الخطير نفسه وتقترف ظلماً تاماً إن قررت أن تسحب من أراضينا المجموعات العسكرية والأجهزة الإدارية والمالية والتي كانت تقوم بالأساس باستخراج وشحن ثرواتنا إلى الدولة الأم (Fanon, The Wretched of the Earth, 2004, pp. 57-8.). وبلورت رؤية فانون تلك حالة تجهيل تامة لقضية الشعب الفلسطيني لمصلحة تبني الخطاب الصهيوني الاستعماري والتلاعب بحقائق الإبادة والعنف الذي واجهه الشعب الفلسطيني على الأرض على يد الميليشيات الصهيونية طوال عقود متعاقبة.

فانون وفلسطين والتجربة الجزائرية


لا شك أن تجربة فانون في الجزائر كانت المنعطف الأبرز في حياته السياسية والفكرية والحركية؛ حيث اشتق من تجاربه في الحرب في الجزائر (Grohs, G.K. Frantz Fanon and the African Revolution, 1968, pp. 552-3) مبدأ «التحول الديموقراطي الجذري» لتفادي التضارب بين البورجوازية (التي اعتبرها طبقة أعوان الاستعمار) والبروليتاريا، وبين المدينة والريف (حيث انحاز فانون للريف والاعتماد عليه في الثورة)، والحزب والشعب؛ وأن من النافع إبطاء سرعة التنمية من أجل توضيح جميع الإجراءات التي تم اتباعها لتحديث المجتمع والاقتصاد لدى الشعب، «وليست الإجراءات الاستبدادية التي تضمن التنمية بالتعاون والتعليم الحثيثين». لكن اللافت في تعميق رؤية فانون المتعصبة للتجربة الصهيونية نظرته لـ«الجيش» من هذه الزاوية، وأنه - كما في حالة إسرائيل حسب فانون - هو مدرسة الأمة، وأن مهمته (تتجاوز المهام القتالية والدفاعية إلى) تعميق الشعور بالتضامن بين المجموعات الإقليمية المختلفة وتعليم القراءة والكتابة والمعارف الأساسية عن النواحي التقنية، وينحاز فانون في المحصلة إلى «الميليشيا» مقابل الجيش الاحترافي.
كما تشير الشواهد القليلة الواردة في نصوص فانون إلى تجاهل متعمّد لمعاناة الشعب الفلسطيني، وعلى سبيل المثال لاحظ فانون: «قبل نحو عشرة أعوام (مطلع الأربعينيات) كنت مذهولاً أن أعلم أن الشمال أفارقة يهينون الملوّنين. وكان مستحيلاً تماماً بالنسبة إليّ أن أقوم بأيّ اتصال مع السكان المحليين. لقد غادرت أفريقيا وعدت إلى فرنسا من دون فهم سبب هذا العداء. وفي هذه الأثناء، جعلتني حقائق معينة أفكر. إن الفرنسي لا يحب اليهودي، الذي لا يحب العربي، الذي لا يحب الزنجي... ويقال للعرب: إن كنتم فقراء فذلك بسبب اليهودي الذي استنزفكم وأخذ كل شيء منكم. ويقال لليهودي: لست من نفس فئة العربي لأنك أبيض فعلاً ولديك أينشتاين وبيرجسون." أما الزنجي فيقال له: "أنتم أفضل جنود في الإمبراطورية الفرنسية؛ إن العرب يعتقدون أنهم أفضل منكم، لكنهم مخطئون"» (Fanon, Black Skin, p. 77). وهي رواية تكشف عن جانب سطحي نادر في فكر فانون ورؤيته للعرب (والفلسطينيين) على نحو استشراقي فج.

من فانون إلى سنغور: التطهر بالتقارب مع فلسطين


جاء تجاهل فانون، الذي وصفه معاصروه بماركس الأفروعمومية ورائد تطوير «الوعي الأسود»، الواضح للقضية الفلسطينية ووقوعها خارج مجمل مشروعه التحرري، في سياق رؤيته للعالم الثالث؛ إذ أقر بأن اليهود (سواء داخل فلسطين أو خارجها) مرّوا بتجربة استعمارية لا تختلف عن تجارب العالم الثالث، وأنّ الحركة الصهيونية نفسها حركة «عالم ثالثية» بامتياز وأنها «ثورة وطنية منتصرة تمكنت من خلالها، في صورة أمّة، من القضاء على الاستعمار، وحققت عبرها هويتها الثقافية الخاصة داخل أراضيها صاحبة السيادة عليها (Levine, Norman, Levine, Frantz Fanon as a Zionism, 1972, p. 428. ).
في مقابل هذه الرؤية القاصرة لدى فانون، جاءت الاستجابة الأبرز لفهم أفريقي عملي للقضية الفلسطينية على يد الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سنغور، الذي لم يكن بعيداً عن أفكار سيزار بخصوص الزنوجة، وكان الأوّل أحد أبرز رسلها ومخلّصيها في القرن الفائت، كما أنه تشابك مع «الاشتراكية الأفريقية» (وكان رئيس الحزب الاشتراكي الحاكم في السنغال) وإن ظلّ محافظاً سياسياً وعلى يمين فانون بشكل واضح. كما تبنّى سنغور موقفاً «معتدلاً» إزاء الاستعمار بمقولته الشهيرة (Leon Dash, Senegal Leader Attack "Racist" Policy of Begin, The Washington Post, September 21, 1979)) أنّ ثمّة ثلاث مجموعات عانت أكثر من غيرها من ويلات الاستعمار، وهم: يهود الشتات، السود خلال عهد الرقّ والعرب في ظل الحكم التركي.
لكن سنغور حقق الاختراق الأفريقي المبكر في رؤية القضية الفلسطينية وكانت بلاده أول دولة أفريقية «سوداء» تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية (1967) رسمياً ممثلاً للشعب الفلسطيني وافتتحت مقراً لها في داكار. ولاحظ دبلوماسيون غربيون في الأخيرة أن سنغور ظلّ مدافعاً بقوة عن المنظمة والقضية الفلسطينية حتى خروجه من السلطة؛ وفي نهاية السبعينيات، رأى سنغور، الذي طالما أكد معارضته مبدأ «تدمير إسرائيل»، وجوب حصول الفلسطينيين على استقلالهم (ضمن ضرورات وضعها لتجديد بلاده علاقاتها مع إسرائيل).