سيناء | كانت الساعة قد تجاوزت الثانية ظهرا بقليل حينما شوهدت السيدة الخمسينية أم محمد زعرب، وهي تقف بشرفة منزلها الواقع على خط الحدود مباشرة بمنطقة صلاح الدين في رفح سيناء، راجية ربها تخفيف المعاناة عن أهل غزة، وعن أقربائها في الشطر الفلسطيني لرفح. أم محمد زعرب سيدة مصرية تنحدر من أصول فلسطينية، وتسكن في حي صلاح الدين برفح سيناء. كانت تعيش مع كامل عائلتها قبل أن تنشطر رفح إلى رفحين، مصرية وفلسطينية.
تقول ام محمد لـ«الأخبار» «كنا لا ننام طوال الليل من أصوات قصف الطائرات الإسرائيلية للمنطقة الفاصلة بين الرفحين ... واستهداف منازل اقربائي وأبناء عمومتي في رفح الفلسطينية». وتتابع «رأيت مساكنهم من شرفة بيتي ... وشاهدت بعيني الطائرات وهي تقصف بيوتهم وتحولها إلى أكوام من التراب، وشاهدت جثث الأطفال والكبار من عائلة زعرب على التلفزيون، ولا املك إلا أن اشكو إلى الله ان يهلك اليهود ومن والاهم ... أنا هنا على بعد خطوات منهم، وغير قادرة على أن أقف معهم، أو حتى أشاركهم العزاء».
ليست تلك الحاجة الوحيدة المتحرقة بنار الفجيعة. يشاركها في ذلك عشرات من أبناء الأسر المصرية المنحدرة من أصول فلسطينية، التي تعيش في الشطر المصري لرفح.
فلهذه المدينة، ومعبرها الرمز، قضية خاصة مرتبطة بمبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارة إسرائيل وإبرام «اتفاقية سلام»، حيث نتج من ذلك تقسيم الحدود من جديد، وتقسيم رفح إلى جزءين، وبالتالي تشتيت العائلات على جانبي الحدود.
داخل محله الكائن عند ناصية أحد الشوارع المتفرعة من شارع صلاح الدين، يجلس الحاج موسى قشطة برفقة صديقه ليتابعا أخبار الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة. يقول قشطة «نحزن على ما نراه عبر شاشات التلفاز من مجازر بحق أبناء عمومتنا وأقربائنا في غزة بصفة عامة، وفي أحياء مدينة رفح الفلسطينية، حيث أهلنا هناك».
محمود الأخرسي، وهو مصري من أبناء رفح، يقول بدوره «هناك علاقات عائلية تربط بين الناس من الجانب المصري بالجانب الفلسطيني، فزوجة أخي فلسطينية، وقد استشهد نجل شقيقتها في العدوان الإسرائيلي الأخير ... فتحنا بيت عزاء هنا وتلقينا العزاء بالشهيد من قبل أقربائنا وأقربائه من أبناء العائلات المصرية من أصول فلسطينية».
بانفعال شديد، يقول آخر يدعى إبراهيم القمبز، «كنا نتمنى لو فتحت مصر معبر رفح لنتمكن من العبور إلى غزة وبخاصة إلى رفح .. لكن ما باليد حيلة». يضيف «نراهم يستغيثون ويصرخون .. ونعجز حتى عن الذهاب لدفنهم ومشاركتهم العزاء في فقدان الأحبة».
أما أم خالد، فهي سيدة فلسطينية متزوجة بمصري وتقيم في مدينة رفح منذ أكثر من 30 عاما. تقول إن حزنها على أقربائها لن يزول أبدا. تعيش حالا من القلق بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، وتعبّر عن ذلك بالقول «الله عليهم اليهود، ما بيفرقوش بين حد وحد، وبيقتلوا الأطفال والأمهات والرجال الكبار ... بدعي ربنا يحرمهم من اعز ما عندهم».
تتوالى السير في هذه المدينة. في منزل أسرتها في حي الاحراش تجلس الشابة إيمان زعرب ( 27 عاماً) وقد اتشحت بالسواد، ممسكة بصورة لشاب ثلاثيني. ما إن تسألها عن صاحب الصورة حتى ينفرط عقد دموعها بغزارة. تهدأ بمرور الدقائق وبمساعدة من والدتها، تبيح عن مواجعها وتقول: «هذا زوجي إياد زعرب، زارنا برفح أيام فتحة الحدود، وتزوجنا ورجعت معه على رفح الفلسطينية وعشنا حياة كنت أراها أجمل حياة، لأنه كان إنسانا حنونا ويعمل كل ما في وسعه لإسعادنا أنا وأطفالي بعدما رزقنا الله ثلاثة أطفال ... بعد أسبوعين من استمرار العدوان الإسرائيلي، وقعت قذائف وصواريخ بجوار بيتنا واستشهد ناس من جيراننا، طلب مني زوجي أن أسافر مع أطفالي إلى رفح وابقى عند أهلي لبعد انتهاء الحرب واستقرار الأحوال، لكنني رفضت وقلت له بنعيش ونموت سوا، إلا انه رفض وأصر على سفري». تتابع بأسى «بالفعل رضخت لرغبته وجيت على أهلي، وكان كل يوم يحكي معنا ليطمئن علينا وعلى الأولاد، وقبل أربعة أيام، قصفت إسرائيل رفح بقوة واستشهد العشرات من أهل زوجي، وعندما اتصلت على تليفونه ما رد ... عرفت من شقيقه أن زوجي قد استشهد بالقصف، وفي نفس اليوم توجهت إلى معبر رفح وحاولت الدخول لأرى زوجي قبل دفنه، وبكيت وبذلت كل ما بوسعي، لكن الأمن المصري لم يسمح لي بالمغادرة ودخول غزة .. وحسبي الله ونعم الوكيل في من قتلوه وفي من حرموني رؤيته، وهو شهيد قبل أن يدفن جثمانه».