في مشهديّة تبدو كأنها مستحضَرة من الدول التي تَحدث فيها انقلابات عسكرية، عندما يَهرب الرؤساء في ليلة «بلا ضوء قمر»، شهد أحد الجبال بالقرب من مستشفى «هداسا - عين كارم» في مدينة القدس، أمس، «هروب» رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وزوجته سارة. إذ وصل الاثنان بسيّارة إلى طريق ترابي عند سفح الجبل، حيث كانت تنتظرهما طائرة مروحية تابعة للشرطة حملتْهما إلى مطار «بن غوريون» في مدينة اللد. وجاء ذلك بعدما نجح المحتجّون الإسرائيليون الذين احتشدوا في «يوم مقاومة الديكتاتورية»، في تأخير رحلة الزوجَين نتنياهو، إلى روما، بقطْعهم عشرات الشوارع الرئيسة والمفارق ومدخل المطار، وأيضاً مهبط المروحيات القريب من المقرّ الحكومي في القدس، ما دفع رئيس الحكومة إلى القيام بـ«مناورة مخادعة»، انطلق خلالها بمروحية الشرطة، بدلاً من مروحية الجيش.في هذا الوقت، سدّ جنود وضبّاط احتياط من وحدات قتاليّة مختلفة مدخل «منتدى كوهليت» للبحوث في مدينة القدس بأكياس الرمل والاسمنت، متّهمين نتنياهو بالوقوف وراء صياغة خطّة «الانقلاب القضائي»، ما دفع بقوّات مكافحة الشغب والشرطة إلى اعتقال عدد من هؤلاء. أمّا في تل أبيب، فقد فرّقت الشرطة المتظاهرين بقنابل الصوت، مستخدمةً الهراوات ووحدات الخيالة أيضاً، بعدما قطع المحتجّون «مفترق يغئال ألون» بالاتّجاهين، لتندلع مناوشات بينهم وبين الشرطة التي نجحت في إعادة فتْح «الشريان الرئيسي» للمدينة. وفي حيفا، أغلقت عشرات القوارب مدخل الميناء، مانعةً سفن الشحن العملاقة من الوصول والرسوّ، وهو ما أفضى إلى اعتقال بعض أصحابها. وفي سياق متّصل، أعلن ديوان الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، إلغاء مراسم تقديم سفراء جدد لدى تل أبيب، بسبب الاحتجاجات التي نُظّمت في أكثر من 150 موقعاً، علماً أنه كان من المزمع أن يقدّم السفراء الجدد لأذربيجان، وغواتيمالا، والإكوادور، وسورينام، وملاوي وسريلانكا، أوراق اعتمادهم.
كذلك، اضطرّت الاحتجاجات وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، إلى تأجيل زيارته للكيان إلى يوم أمس بعدما كانت مُقرَّرة أوّل من أمس. واقتصرت لقاءات أوستن على عدد من المسؤولين الإسرائيليين، في مقدّمهم نتنياهو، ووزير أمنه يوآف غالانت، في إحدى قاعات المطار، قبل مغادرته عائداً إلى الولايات المتحدة. وبحسب قناة «كان» العبرية، فإن «الإدارة الأميركية قلقة جدّاً حيال الاحتقان الداخلي في إسرائيل، والذي تَسبّب في استقبال غير مناسب لوزير الدفاع الأميركي». وفي وقت سابق، أوضحت «الإذاعة الإسرائيلية العامّة» أنه «على خلفية الاضطرابات المتوقَّعة (أمس)»، قرّر المسؤولون الإسرائيليون «ألّا يغادر أوستن المطار على الإطلاق»، في إشارة إلى القلق الإسرائيلي المتنامي من اطّلاع أوستن على التظاهرات، أو أن تعرقِل هذه الأخيرة طريقه، وخصوصاً أن إدارة جو بايدن أبدت أخيراً قلقها حيال خطّة حكومة نتنياهو لـ«إصلاح الجهاز القضائي».
وفي المواقف، حثّ الوزير الأميركي، المسؤولين الإسرائيليين الذين التقاهم، على الالتزام بـ«تفاهمات العقبة»، وخفْض التصعيد في الضفة الغربية المحتلّة، قائلاً إنه يتوجّب «على إسرائيل والفلسطينيين تنفيذ الالتزامات التي قدّموها للولايات المتحدة والأردن ومصر في قمّة العقبة»، مشدّداً على ضرورة «وقْف الإجراءات الأحادية الجانب التي تقوّض حلّ الدولتين». أمّا نتنياهو، فلم يشغله الإحراج الذي تسبّبت به الأزمة الداخلية، عن إعادة تذكير أوستن بـ«الأجندة المشتركة لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية، وإحباط العدوان الإيراني، والحفاظ على الأمن والازدهار في المنطقة، وتوسيع دائرة السلام». وقُبيل مغادرته إلى العاصمة الإيطالية روما، وفي محاولة لمحاصرة «الحرائق» السياسية المندلعة، قال نتنياهو «(إنّنا) نحاول التوصّل إلى تفاهم بشأن الإصلاح القانوني»، مستدرِكاً بأن «كلّ المحاولات جوبهت برفض كامل... هناك محاولات لدفع البلاد نحو الفوضى». واعتبر أن «الهدف من الرفض» هو «إسقاط حكومة انتُخبت ديموقراطياً قبل أشهر، وإجراء انتخابات سادسة»، مؤكداً «(أنّنا) سنبذل قصارى جهدنا لمنع تعطيل حياة مُواطني البلاد». وفي ردّه على تلك التصريحات، قال زعيم المعارضة، يائير لبيد: «حتى على سلّم الطائرة، في طريقه إلى نهاية أسبوع مهدرة وغير ضرورية على حساب الدولة، لا يستطيع نتنياهو التوقّف عن الكذب»، مضيفاً إن «الحكومة لم تُوافق على أيّ محاولة للتفاوض، مواصِلةً دفْع التشريع الذي سيُحوّلنا إلى دولة مسيانية ومتطرّفة وديكتاتورية». ورأى أن «الفوضويين الوحيدين هنا، هم وزراء كبار في الحكومة، وهم الذين يحاولون إشعال البلاد».
اقتصرت لقاءات أوستن على عدد من المسؤولين الإسرائيليين، في مقدّمهم نتنياهو


إلى ذلك، وفي ما قد يُعدّ مؤشّراً خطيراً على مستوى امتداد الحركة الاحتجاجية إلى منظومة الجيش، قرّر الأخير، أمس، فصْل طيّار برتبة عقيد، في قوّات الاحتياط التابعة لسلاح الجوّ، بسبب كونه أحد قادة احتجاج الطيّارين، الذي أعلنوا رفْضهم الامتثال للخدمة والتدريبات. وطبقاً لموقع «واينت»، فإن «العقيد المفصول، تومر بار، كان رئيس قاعدة «رمات ديفيد» الجوّية بالقرب من العفولة، حتى أشهر معدودة خلت». وفي الإطار نفسه، ذكر قائد سلاح الجوّ الإسرائيلي أن «الضابط المفصول تجاوَز كلّ الحدود»، فيما أشار الموقع إلى أن «أعضاء طاقم جوّي آخرين أعلنوا تجميد تطوّعهم في رحلات الاحتياط في الوقت الحالي»، لافتاً إلى أن القيادة في سلاح الجوّ «قرّرت ترْك الباب مفتوحاً لعودتهم في حال قرّروا ذلك مستقبلاً، بشرط العودة إلى نشاط كامل من دون إبداء أيّ تحفّظات».
ولم يقتصر الأمر على الجيش، إذ إن يدَ وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، امتدّت الى جهاز الشرطة، حيث أقال الأخير قائد لواء تل أبيب في الشرطة، عامي آشر، من منصبه، بسبب تمنّعه عن تنفيذ توجيهات بن غفير في التعامل مع المتظاهرين. وحسب «يديعوت أحرونوت»، فإن «بن غفير غاضب بسبب إغلاق طريق أيالون، وعدم تعامل الشرطة مع المحتجين وفقاً للتعليمات، بينما ردّت الشرطة بأن استخدام قنابل الصوت ضدّ المتظاهرين هو الإجراء الأخير الذي يجب أن يُستخدم». وتلقّفت المعارضة خطوة بن غفير المتطرّفة، حيث اعتبر رئيس المعارضة يائير لابيد، أنه «لم يكن هناك مثل هذا العار في تاريخ إسرائيل (..) مهرّج التيكتوك يطرد ضابطاً ممتازاً في الشرطة». بينما قال وزير الأمن السابق، بني غانتس، إن بن غفير أقال قائد شرطة تل أبيب «لتصرّفه بشكل مستقلّ، ورفضه تعليماته في مواجهة الاحتجاجات»، داعياً نتنياهو إلى «إقالة بن غفير قبل أن يفكّك الشرطة وسيادة القانون».