حطّ وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، رِحاله في سوريا، قادماً من تركيا التي التقى وزير خارجيّتها، مولود جاويش أوغلو، وتناوَل معه مسار التطبيع السوري - التركي وسُبل دفْعه، قبل أن يعلنا معاً، خلال مؤتمر صحافي مشترك، عقْد لقاء تشاوري دبلوماسي رُباعي في موسكو الأسبوع المقبل، تمهيداً للقاء على مستوى وزراء الخارجية بين أنقرة ودمشق، في حال تمّ التوافق على ذلك، في إشارة إلى وضع الكُرة في ملعب الأخيرة التي يزورها عبد اللهيان.الزيارة التي حملت طابعاً إنسانياً، سواءً لتركيا التي تجوّل فيها عبد اللهيان وزار بعض المناطق المنكوبة جرّاء الزلزال المدمّر الذي ضربها في السادس من شهر شباط الماضي، أو لسوريا التي استهلّ الوزير الإيراني زيارته إليها بالهبوط في اللاذقية والتجوّل في بعض المناطق المنكوبة أيضاً، تأتي بعد بضعة أيام على زيارة مستفزّة لرئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، لقاعدة التنف، حيث تتمركز القوات الأميركية في منطقة تقع على المثلّث الحدودي مع الأردن والعراق، قادماً من تل أبيب، الأمر الذي ردّت عليه تركيا باستدعاء السفير الأميركي في أنقرة واستجوابه حول سبب هذه الزيارة. وعلى الرغم من محاولة الولايات المتحدة عدم استفزاز تركيا، بحصْرها الزيارة بـ«التنف» البعيدة عن التماس مع الأخيرة، وعدم إجراء مسؤولها العسكري الرفيع خلالها أيّ لقاءات مع مسؤولي «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، أبدت أنقرة انزعاجها العلني والصريح، ورفعت من مستوى تصريحاتها المُعارِضة للدور الأميركي في المنطقة، إذ نقلت وكالة «الأناضول» الرسمية التركية عن مصادر دبلوماسية تركية قولها إن «الولايات المتحدة تُواصل دعْم حزب العمّال الكردستاني والوحدات الكردية، سواء التقى رئيس الأركان الأميركي، مارك ميلي، بقادة التنظيم الإرهابي خلال زيارته لشمال شرق سوريا أو لا».
وبينما كان الوزير الإيراني يُجري جولة مكّوكية بين أنقرة ودمشق، زار وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، السعودية، لإجراء محادثات حول قضايا عدّة، سواء الحرب في أوكرانيا، أو الملفّ النفطي الروسي، بالإضافة إلى القضية السورية، التي تبدي الرياض مزيداً من المرونة في التعامل معها. وأنبأت بذلك تصريحاتٌ دافئة جديدة لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، قال فيها إن «الإجماع يتزايد في العالم العربي على أن عزْل سوريا لا يجدي، وأن الحوار مع دمشق ضروري، وخاصة لمعالجة الوضع الإنساني هناك». وأضاف ابن فرحان، في تصريحات إلى الصحافيين في لندن، قبل استقباله نظيره الروسي في الرياض: «قد يؤدّي ذلك في النهاية إلى عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية»، متابعاً في ردّ على سؤال حول دعوة سوريا إلى القمّة العربية المُقرَّرة في الرياض: «أعتقد أن من السابق لأوانه مناقشة هذا الأمر». وخلال المؤتمر الصحافي المشترك مع لافروف، أعلن الأخير أنه وَضع نظيره السعودي في أجواء تحضيرات المؤتمر المزمَع لأطراف «أستانا» بشأن الأزمة السورية، مؤكّداً أن بلاده «حريصة على عودة سوريا إلى الأُسرة العربية».
على الرغم من محاولة واشنطن عدم استفزاز أنقرة أبدت تركيا انزعاجها العلني والصريح من زيارة ميلي


وتأتي هذه التطوّرات في وقت فشلت فيه محاولات قادها النائب الجمهوري من فلوريدا، مات غايتس، للخروج بقرار في مجلس النواب يقضي بسحب القوّات الأميركية من سوريا، حيث صوّت 103 نوّاب فقط لصالح الوثيقة، بينما صوّت ضدّها 321 نائباً. وسيكون من شأن ذلك توفير غطاء قانوني داخلي لوجود القوّات الأميركية غير الشرعي في سوريا، والذي وصفه السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، في رسالة تأييد لجهود غايتس إلى الكونغرس، بأنه «غير واضح الأهداف»، مشيراً إلى أنه «بعد أكثر من ثماني سنوات من العمليات العسكرية، لا يوجد تعريف لِمَا ستبدو عليه الهزيمة الدائمة لـ(داعش)» في سوريا، حيث تتّخذ الولايات المتحدة من محاربة التنظيم ستاراً لوجود قوّاتها هناك، أضافت إليه أخيراً تشريع «قانون الكبتاغون» الذي تقول إنها ستُحارب عَبره المخدرات التي تتّهم دمشق بالتورّط في تجارتها. وفي هذا الإطار، أنبأ إعلان فصيل «جيش سوريا الحرّة»، الذي يضمّ سوريين يقاتلون تحت إمرة واشنطن في «التنف»، ضبْط مخدّرات كانت في طريقها إلى الأردن، بِنِيّة واشنطن توسيع نطاق نشاطها في المنطقة الحدودية، التي تُعتبر نقطة متقدّمة لتأمين حليفتها إسرائيل من جهة، وقاعدة خلفية لتقديم إمدادات لخلايا تنظيم «داعش» المنتشرة في البادية السورية، وفق الاتهامات السورية - الروسية للأميركيين، من جهة أخرى.
ويُساوق الحَراك السياسي والدبلوماسي مع تركيا من جهة، ومع السعودية من جهة أخرى، الاستراتيجيةَ التي تبنّتها دمشق لإعادة العلاقات بشكل ثنائي، والتي أعادت فتْح الأبواب المغلَقة مع دول عربية عديدة آخرها مصر، إذ تُولي سوريا أهمّية قصوى لتلك العلاقات، وترى فيها مدخلاً مناسباً لعودة دمشق إلى ممارسة دورها السياسي في المنطقة، بما من شأنه أن يفضي في المحصّلة إلى عودتها إلى مقعدها المجمَّد في «الجامعة العربية» منذ أكثر من عشرة أعوام. وقد جاء الزلزال المدمّر ليمنح دفعة لتلك الاستراتيجية، عبر إعطاء العواصم العربية الراغبة في التواصل مع دمشق، منفذاً مناسباً، بعيداً عن التلويح الأميركي المستمرّ بالعقوبات ضدّ كلّ مَن يحاول كسْر عزلة سوريا السياسية.