لم تتقبّل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة مشهد تشييع الشهيد عبد الفتاح خروشة، وهو مكفَّن براية حركة «حماس» التي ينتمي إليها، فبادر العشرات من عناصرها إلى اعتراض طريق المشيّعين، قبل أن يهاجموا الجنازة عقب خروجها من «مستشفى رفيديا» باتّجاه مخيّم عسكر، ويبدأوا بإطلاق قنابل الغاز المسيّل للدموع والأعيرة النارية في الهواء. المشاهد المصوَّرة للحدث، والتي تداولها الآلاف من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، ظَهر فيها جثمان الشهيد (49 عاماً) وهو ممدَّد على الأرض، فيما يحاول عدد من المشيّعين نقْله إلى سيّارة الإسعاف. وبينما سعى محافظ نابلس، إبراهيم رمضان، إلى تفنيد الرواية «الحمساوية»، مدّعياً أن الأجهزة الأمنية تدخّلت لـ«منع الاستيلاء على الجثّة»، نفت محافظة نابلس أن يكون عناصر الأمن قد أسقطوها أرضاً، وقالت إن تدخُّل الأمن كان يهدف إلى السيطرة على خلاف وقع أثناء التشييع. وادّعى مسؤول في المحافظة، في تصريح نُشر على «فيسبوك»، بأن «أشخاصاً استولوا على جثمان الشهيد، وأخرجوه من مركبة الإسعاف، رغماً عن عائلته ووضعوه على الأرض»، ليقع الخلاف عندها ويتطوّر إلى مشكلة، اضطرّت قوى الأمن إلى «التدخّل بالقوّة المحدودة لضبط الحالة»، بحسب المسؤول نفسه، الذي أضاف إن ترتيبات الجنازة وُضعت يوم أمس بالتنسيق مع عائلة الشهيد وفعاليّات مخيم عسكر، «لقطع الطريق على دُعاة الفتنة والتحريض». وبرّر محسوبون على السلطة، بدورهم، ما جرى، بدعوى تعمُّد المشاركين في التشييع استفزاز الأجهزة الأمنية التي كانت تؤمّن الجنازة، حينما أطلقوا شعارات تمجّد «القسام وحركة حماس، وتتّهم السلطة بالعمالة للاحتلال».في المقابل، أكد شهود عيان أن جثمان الشهيد سقط على الأرض بسبب الهجوم على الجنازة، لافتين إلى أن عناصر الأمن طلبوا من المشيّعين إعادة الجثمان إلى سيّارة الإسعاف، وإبقاءه فيها حتى نهاية المسيرة، إلّا أن المشاركين في المراسم نجحوا في النهاية في استرداده وتشييعه على الأكتاف. وأسف مراسل «تلفزيون فلسطين» الحكومي في نابلس، بكر عبد الحق، من جهته، لتصرّف الأجهزة الأمنية، مشيراً إلى أن هذه ليست المرّة الأولى التي تعتدي فيها الأخيرة على جنائز الشهداء؛ إذ تَكرّر الحدث ذاته في جنازتَي الشهيدَين محمد حزر الله وجميل كيال. وقال عبد الحق، في منشور عبر صفحته في «فيسبوك»: «واضح أن الذي اتّخذ القرار بذلك لا يفرّق بين الشهداء مثلما لا يفرّق رصاص الاحتلال بينهم»، وأضاف: «نحن في مكتب نابلس عاهدنا أنفسنا على أن نكون الأقرب إلى الشهداء، ومؤسّستنا داعمة لتوجّهاتنا، ومُسخِّرة كلّ الإمكانات لذلك (...) هذه المرّة الأولى منذ 6 سنوات التي لا أستطيع فيها تغطية تشييع جثمان شهيد، أنا أتفهّم كلّ ما حدث معي في الجنازة، الناس غاضبة وموجوعة». وكان الشارع «الفتحاوي» قد ردّ على طريقته على تصرّف الأجهزة الأمنية؛ إذ تعمّد عدد من مقاومي «كتائب شهداء الأقصى»، وهم يلبسون شارات «فتح» على رؤوسهم، حمْل جثمان الشهيد خروشة، واستكمال المراسم إلى نهايتها. وفي جنين، بدا المشهد أكثر بلاغة، حيث لفّت الجماهير جثمان الشهيد زياد الزرعيني، وهو أحد عناصر الأجهزة الأمنية، وعنصر فاعل في «كتائب شهداء الأقصى» - الذراع العسكرية لـ«فتح»، بعلَم حركة «حماس»، إلى جانب راية «فتح»، تعبيراً عن رفض سلوك السلطة، والقفز عن مربّع الخلافات الحزبية.
أكد شهود عيان أن جثمان الشهيد سقط على الأرض بسبب الهجوم على الجنازة


إزاء ذلك، يُطرح سؤال: ماذا تريد قيادة الأجهزة الأمنية؟ يبدو واضحاً أن معركة «سيف القدس»، ثمّ هروب ستّة أسرى من سجون جلبوع في عملية «نفق الحرية»، نقلا الشارع «الضفّاوي» إلى مربّع «ما بعد الانقسام»، فيما سمح تمدّد خلايا المقاومة واتّساع رقعة الاشتباك بدخول حركة «حماس» إلى هذا الشارع بشكل علني، وهو ما يُفقد تلك الأجهزة «الفزّاعة» التي اختبأت خلفها طوال 15 عاماً، وبرّرت بها حملاتها الأمنية التي استهدفت حصراً سلاح المقاومة، دون سلاح العائلات والإشكاليات الداخلية. من هنا، يتّضح أن السلطة تريد إعادة عقارب الزمن إلى ما قبل التحوّلات المُشار إليها، لأن فقدانها مبرّر الخوف من تكرار تجربة سيطرة «حماس» على غزة في الضفة، يَحرمها الورقة الوحيدة التي تستطيع من خلالها القيام بدورها الأمني في تقويض الاشتباك واستعادة الهدوء. غير أن الشارع «الضفّاوي»، و«الفتحاوي» منه حصراً، يبدو الحاجز الأكثر منعةَ الذي يعترض مخطّطات الأجهزة الأمنية وقادتها.