تونس | ينظّم "الاتحاد العام التونسي للشغل"، اليوم، في العاصمة تونس، تظاهرة يُتوقّع أن تكون الأكثر جماهريّة منذ سنوات، وذلك بالنظر إلى عوامل عدّة، أبرزها التعبئة العالية التي جرت من أجلها - علماً أنها تَعقب سلسلة فعّاليات ومسيرات لـ"الاتحاد" على امتداد البلاد في الأيام الماضية -؛ وانطلاقها في ظرف استثنائي عام يتّسم بهيمنة الرئيس قيس سعيد على مؤسّسات الدولة واستهدافه المعارضة التي أَوقف عدداً من قياداتها في ما بات يُعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة". وتُضاف إلى العاملَين المذكورَين محاولات استهداف هياكل المنظّمة، والسعي إلى عزلها عبر طرْد الأمينة العامّة لـ"الكونفدرالية الأوروبية للنقابات"، إستر لينش، قبل أسبوعَين، بعد مشاركتها في تجمُّع عمّالي في مدينة صفاقس وسط البلاد، فضلاً عن منْع مسؤول العلاقات الأفريقية والآسيوية في "اتّحاد العمّال الإسباني"، ماركو بيريز مولينا، من دخول تونس قبل 48 ساعة على تظاهرة اليوم، حيث كان ينوي حضورها دعماً لـ"اتّحاد الشغل".
رسالة تحدّ
اختار الاتحاد أن يكون منطلق التظاهرة من "بطحاء محمد علي الحامي" حيث مقرّه التاريخي، والذي انتقل منه مؤقّتاً، منذ أكثر من عام، إلى آخر مؤقّت بسبب أعمال التجديد والصيانة. ولهذا الاختيار دلالات؛ بالنظر إلى ما للموقع المذكور من رمزيّة تاريخية، فهو احتضن كلّ التحرّكات النقابية والعمّالية والجماهيرية منذ الفترة الاستعمارية وخلال عقود دولة الاستقلال التي كانت فيها "منظّمة الشغيلة" القوّة الشعبية الأولى. كما شكّل ملاذ كلّ المحتجّين والمُضربين والباحثين عن مساحة لرفع الصوت ضدّ الاستغلال والدفاع عن الحقوق ونصرة القضايا العادلة. ومن "البطحاء" أيضاً، انطلقت آخر المسيرات الاحتجاجية قبل سقوط نظام زين العابدين بن علي، والتي اجتاحت شارع الحبيب بورقيبة صبيحة 14 كانون الثاني 2011.
وفي هذا الإطار، يقول الناطق الرسمي باسم "اتّحاد الشغل"، سامي الطاهري، أن "الاختيار مدروس، فالبطحاء هي رمز للنضال وللثورة، وفيها كانت كلّ الأطياف تلتقي تحت راية الاتحاد ويوحّدها النضال الاجتماعي ومناهضة الاستبداد"، في ما يؤشّر إلى نيّة المنظّمة إيصال رسالة إلى النظام مفادها التذكير بقدرتها، في كلّ المراحل، على تحدّي السلطات التي كانت تستهدفها. ويضيف الطاهري، في تصريح إلى "الأخبار"، أن "البطحاء، منها انطلقت المسيرات الهادرة التي لا تقف أمامها أيّ قوّة قمعية، وفيها دارت معارك مع أجهزة البوليس ومع ميليشيات السلطة، ومنها يرتفع الصوت قوياً بالموقف الواضح"، لافتاً إلى "(أنّنا) وجدنا تجاوباً كبيراً من الجميع لمّا قرّرنا التجمّع العام في هذا المكان".
منذ الـ25 من تموز 2021، حرص "اتحاد الشغل" على إبداء دعمه الضمني لقرارات الرئيس قيس سعيد


الاستعداد للمواجهة القادمة
منذ الـ25 من تموز 2021، حرص "اتحاد الشغل" على إبداء دعمه الضمني لقرارات الرئيس قيس سعيد - وهو ما لم ينلْه أيٌّ ممّن تعاقبوا على السلطة خلال العقد الأخير -، مُكرّراً في كلّ بيانات هيئته الإدارية ومكتبه التنفيذي ألّا رجوع إلى ما قبل 25 تموز، في موقف لم يَغِب حتى عن أكثر البيانات حدّة في نقْد السياسات التي يعتمدها سعيد وحكومته. بذلك، تباينت المنظّمة مع أكبر ائتلاف معارض متمثّل في "جبهة الخلاص الوطني" التي تمثّل "حركة النهضة" القوّة السياسية الرئيسة فيها، والتي تنادي بإسقاط سعيد والعودة إلى ما قبل تفعيل "الفصل الثمانين". وهي إذ لم تعلن، في أيّ محطّة من المحطّات، القطيعة مع سعيد، فقد رفعت على طول الخطّ شعار الحوار، وقدّمت إلى الرئيس مبادرة للحلّ لم يَقبل بها.
أمّا الآن، وبعدما تراجعت "منظّمة الشغيلة"، أكثر من مرّة خلال السنوات العشر الماضية، إلى ما يُعرف بـ"المُربّعات النقابية"، فاسحةً المجال للقوى السياسية والمدنية للاضطلاع بأدوارها، فهي تعود اليوم لتُعلن "معاركها" على الصعيدَين النقابي والوطني، "دفاعاً عن الحقوق والحريات". وفي هذا الإطار، يجيب الطاهري سؤال الأخبار حول أهداف التحرّكات الأخيرة بالقول: "أوّلاً، للدفاع عن المطالب الاجتماعية للعمّال، وتنفيذ الاتّفاقيات المبرَمة مع الحكومة، وتحسين القدرة الشرائية للعمّال وعموم الشعب والتمكين من الحقّ في العمل اللائق. وثانياً، للدفاع عن الحق النقابي وعن حق الإضراب، وردّاً على الهجمة التي تشنّها السلطة بالاعتقالات وتلفيق القضايا الكيدية وعبر حملات التشويه والشيطنة التي يمارسها أنصارها والإعلاميّون التابعون لها. وثالثاً، للدفاع عن الحرّيات التي تُنتهك منذ مدّة بالتضييق على حرية الإعلام وملاحقة الأصوات الحرّة ومحاكمات الشباب وتجريم الاحتجاجات الاجتماعية وشيطنة الأحزاب والتحريض عليها".
هكذا، يبدو أن "اتحاد الشغل" قد قرّر رفْع السقف هذه المرّة، بعدما طالت تلك الحملات هياكله وقيادته، وتمّ اعتقال مسؤول نقابي في قطاع النقل، فيما وُجّهت تْهم إلى مسؤولين آخرين على خلفية تحرّكات احتجاجية وإضرابات مطلبية. وإذ يدرك الاتحاد أن هذا التصعيد من قِبَل السلطة يمكن أن يذهب إلى ما هو أبعد في ظلّ الشراسة التي تُظهرها الأخيرة ضدّ مُعارضيها كافّة، فهو يحاول، انطلاقاً من رصيده ومكانته، إعادة التوازن إلى الساحة، التي بدأت تبعث بمؤشّرات أكثر خطورة، مثلما ظهر في الاعتداءات التي طالت الأفارقة السود في أعقاب خطاب سعيد عن "مؤامرة" لإغراق تونس بالمهاجرين. وبحسب الطاهري، فإن مسيرة اليوم سيَعقبها اجتماع لـ"الهيئة الإدارية الوطنية للتقييم واتّخاذ الخطوات القادمة، وكلّ الاحتمالات واردة".
وفي المقابل، ستكون السلطة معنيّة بقراءة رسائل تحرّكات اليوم، لتُقرّر على أساسها ما إذا كانت ستُعامل "الاتحاد" كشريك اجتماعي ووطني ينبغي التحاور معه، أم ستَعدّه خصماً يجب إعلان الحرب الشاملة عليه. أمّا القوى المدنية والسياسية التي أعلنت التعبئة من جهتها دعماً لـ"الاتحاد"، فهي ستجد مصلحتها في البقاء على هذا الدعم، كوْنها تَعلم أن أيّ جهة لن تكون في مأمن في حال خسرت المنظّمة النقابية معركتها. ومن بين هذه القوى، تَبرز تلك الشبابية خصوصاً، التي قرّرت الالتحاق بمسيرة اليوم، مع ما تشكّله مشاركتها من إضافة بالنظر إلى تَميّزها بالحركيَة وتنظيمها الأفقي، ولتجاربها في مواجهة حكومات ما بعد الانتفاضة. وعلى رغم الانقسامات التي شهدتْها بعد التحاق عدد من أعضائها بصفّ الرئيس، إلّا أن "الشبيبة" حافظت على موقف مناهض لسياسات الأخير، وهو ما يبدو أنها ستعمل على تنميته في المرحلة المقبلة.