اتخذ ثيودور هرتزل عنوان «دولة اليهود» لكتابه التنظيري للمشروع الصهيوني، وهو عنوان النسخة الألمانية، إلا أن عنوان ترجمة الكتاب للعبرية والإنكليزية والعربية تحول إلى «الدولة اليهودية». ومن الناحية النظرية، فإن الفرق هنا كبير، وعطف عليه كثير من التأويلات حول ماهية التصور الحقيقي للصهيوني النمساوي. خصوصاً أنه وعند الحديث عن هرتزل يمسي الاختلاط والتأويل باباً مفتوحاً لكتاباته، فهو فوضوي ومتناقض وانتهازي، كأغلب المتمترسين خلف الهويات الطائفية، فهرتزل كان مستعداً أن يكتب الشيء ونقيضه، أن يكتب أو يفعل أي شيء، المهم غاية واحدة: «دولة لليهود».من الممكن الادعاء أن هذا الاختلاف في ترجمة العنوان وتأويله، يعكس صورة مشهد الشقاق الجوهري في كيان العدو على طول تاريخه والذي وصل إلى أقصى مواصيله اليوم. فدولة اليهود هي دولة يمتلك اليهود فيها القوة السياسية القاهرة في نظام تحكمه العقلانية السياسية ونمط من أنماط العلمانية، والركيزة الأساس هنا الحفاظ على هذا الكيان والمؤسسات السياسية مهما كانت البقعة الجغرافية، بما هو أشبه بحكم البيض لمستعمرات أميركا وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا سابقاً. أمّا الدولة اليهودية، فهي دولة تتبنى اليهودية كهوية وتشريعات تتجسد في كل أركان الدولة ومؤسساتها، وبما يتصل بأهمية السيطرة على الكيان والأرض اليهوديتين بما يشمل الأهمية الدينية لمدن الخليل وطبريا وصفد والقدس على طول جغرافيا فلسطين. يشكّل هذا التناقض العماد الأساس لمصفوفة التناقضات المتنوعة للكيان المصطنع، بل إن ما ينطوي على لفظ اصطناعه هي القوة المكتسبة من الغرب بالإضافة إلى ذكاء وإبداع النخبة السياسية التاريخية للكيان في صنع صمغ توفيقي يجمع حزمة التناقضات هذه.
تكمن أهمية فهم هذه المسألة في استيعاب اختلاف علاقة مجتمعات الصهاينة مع الضفة، بين من يرى في الضفة قيمة دينية لا تتجزأ عن الصهيونية (يهودا والسامرة)، وبين من يراها من ناحية أمنية لحماية عمق الاحتلال سواء من الناحية العملياتية أو من ناحية العلاقة مع الغرب والصورة العالمية للكيان، وأيضاً من لا علاقة له البتة ويعيش في ما يسمى صهيونياً بالفقاعة أو «دولة تل أبيب». ويضاف إلى ذلك، أكثر العلاقات استفزازاً وهي العلاقة الأخلاقية، أي الصهاينة الذين يعيشون أزمة أخلاقية في كونهم مستعمِرين فيصنعون نظاماً أخلاقياً تبريرياً أنه ضد استمرار «احتلال» الضفة ويريد السلام وأن يكمل عيشه في أرض غير محتلة في العمق الفلسطيني.
النقطة هنا أن الصهاينة يعرّفون أنفسهم كالنقيض للآخر، بمعنى أن الذي يستوطن في حيفا يرى نفسه يسمو أخلاقياً على هؤلاء الهمج المتدينين الذين يستوطنون ويعملون في مشاريع استيطان الضفة. وهؤلاء، بدورهم، يرون أنفسهم الأكثر التزاماً باليهودية والصهيونية ديناً وفكرة قبالة هؤلاء العلمانيين. كما نظر بن غوريون تاريخياً، فإن مؤسسة الجيش تعمل هنا كحكم تسلّل بين الفئتين، وأيضاً ادعاء التحكم بمدى همجية المستوطنين في الضفة، مع وضع مسافة «أخلاقية» و«احترافية» بينه وبينهم. دور الحكم هذا يترهل يوماً بعد يوم، ولذلك نرى التواطؤ والمجاهرة بالتعاون بين المستوطنين والجيش في الضفة، وأحياناً الاشتباك بينهم وضرب المستوطنين للجيش، والأهم الشقاق بين الجنود أنفسهم الذين تهتز منظومتهم القيمية والأخلاقية (بالمعايير الصهيونية) بين من يريد التمسك بالعقلانية والانضباط العسكري ودور المؤسسة العسكرية، وبين الجنود الذين يتمردون على هذه الحالة لدوافع مختلفة. كل هذا اليوم، وفي ظل حكومة ليست مجرد يمينية بل صهيونية دينية، والأدهى أنها تعمل على تغيير البنية القانونية للكيان السياسي لدولة اليهود ليكون دولة يهودية أهمية الضفة فيها مركزية وقوانينها تزعج ترف العلمانيين الصهاينة.
هذا التناقض حقيقي وخطير جداً على الكيان، وهنا المسألة ليست من التهويل والمبالغة، بل تستند إلى منطلقات موضوعية. والخطورة هنا تكمن في غياب الخيال؛ المشروع الصهيوني، منذ قرابة القرنين، مشروعٌ قائم على القدرة الإبداعية في الخيال واللعب بالخيال وأخيراً تجسيد هذا الخيال على أرض الواقع. وهذه القدرة في الإبداع وابتكار الحلول والمغامرة في تطبيقها هي من سمات القادة البارزين والتاريخيين للعدو. أمّا اليوم، وبما يمكن رؤيته كصيرورة خلدونية، فكيان العدو يصطدم بالجدار، فلا شخصيات ورموز فيه تمتلك حساً جماعياً صهيونياً تخشى فيه على كل المشروع، وتدأب على العمل من أجله. ومن ناحية تنظيرية ومتخيلة فلا حلول مطروحة، وما لا يمكنك تخيله لا يمكنك تجسيده على الأرض. هذه الأزمة هي ما يحاول الأميركيون حلها، فيعترض -مثلاً- أحد ساسة الإسرائيليين على التدخل الزائد للسفير الأميركي في السياسة الداخلية، ليرد السفير: «أنا على يقين أن الإسرائيليين أنفسهم يحتاجون لتدخلي». وبالعود إلى الضفة، ترى ممارسة الصهاينة تقوم على فكرة أن الجيل الجديد في الضفة لم يعاصر الانتفاضتين وعليه لم يتعلم الألم فعلينا أن نؤلمهم ليرتدعوا. هذه الفكرة هي إحدى دلائل الكسل الإبداعي الصهيوني ومجرد نسخ ممارسات تاريخية لفترات وظروف مختلفة على اليوم. فمجرد ما تقوم به جميع مجتمعات العدو هو الاعتماد والاتكاء على فائض القوة التاريخي الذي صنعه من سبقوهم وهو فائض يتم استهلاكه.
هذا ما يصلنا بمسؤوليتنا نحن، فالتناقضات الداخلية للصهاينة ليست مجردة، أو أن لكيان العدو مدة صلاحية كالمعلبات وتنتهي مع الوقت. لا، نحن الفاعل الرئيس في كل هذا، المقاومة هي المحرك الرئيس لهذه التناقضات ومن دون المقاومة تنتفي أهميتها التاريخية. ومن المفارقات التاريخية التي ترقى لشيء من التدخل الغيبي، أن المقاومة اليوم في الضفة هي من ناحية العتاد في أضعف الحالات تاريخياً، إلا أن الأثر التاريخي لهذه الطلقات النارية وحد السكين وعجلات الدهس، في هذه المرحلة، لا مثيل له. إنّ ما يقوم به المقاومون، وهم مجموعة شباب مسلحين، أمر ذو قيمة استراتيجية في النضال الفلسطيني من الممكن المحاججة أنها الأهم بالمطلق، فلقتل المستعمرين والغزاة اليوم الدور الأساس في إشعال تناقضاتهم. ورغم خطاب مجتمع العدو عن الحرب الأهلية بين بعضهم البعض، فإن الأمر لا أساس له، بل وهمٌ؛ هم يظنون أنهم شعب وأمة حقيقية وليسوا طارئين، فالحروب الأهلية من سمات الأمم التي تعيش على أرضها أو أتمّت إبادة السكان الأصليين، أمّا الصهاينة أكسل من أن يقتلوا بعضهم، والشقاق لن يولّد إلا الرحيل.
أمّا أمر تكرار «إيلام الضفة»، فإنّنا في مرحلة مختلفة، الضفة ليست وحيدة نتباكى على ألمها في الشاشات عاجزين كالانتفاضة الثانية، المقاومة الفلسطينية في غزة ترى نفسها «ركناً شديداً» يؤوى إليه، والمقاومة العربية لا تزال تقول: «يمكنكم في الشدائد الاعتماد علينا». أمّا تناقضات العدو، فالسؤال الاستراتيجي بالنسبة لنا، وبما سيؤثر على تاريخنا كعرب لبقية القرن، هو كيفية استغلالها بالشكل الصحيح، وأن ننقض في وقت لا يولد وحدة صهيونية بل لوماً لبعضهم البعض - هذا السؤال المصيري استأمنه الله عليه عبده الفقير إليه أبو خالد محمد الضيف.