خلال منتصف السبعينيات، على جدار بيتنا الخارجي في مخيم اليرموك، عَلّقتْ حركة «فتح» مُلصقاً لرسمِ فدائيٍّ يحمل بندقية، وقد كُتبت تحت صورته الكبيرة المهيبة عبارة كبيرة باللغة الإنكليزية تقول «by guns freedom comes»، وتعني «بالسلاح تأتي الحرية»، وإلى جانبها ورقة طُبعتْ على عَجَلٍ، تحمل صورة جورج حبش وهو يفتح فمه عن آخره رافعاً يده نحو الأعلى، وإلى يسار فمه صرخةٌ مكتوبةٌ تقول: «لا تراجع... الثورة مستمرة حتى التحرير» كان حبش و«الشعبية» محظورين وقتها، وكان العالم بأسره يعمل حساباً للفلسطينيين.تلك هي الفلسفة الثورية التي دأبَ عليها النضال الفلسطيني، فغرستْها المقولاتُ والأفكار، ورسَّخها رصاص الفدائيين في الأذهان، تلك العبارات تحولت إلى منظومة ثقافية معرفية وآلية تفكير لدى الفلسطينيين، وبقي ذلك حتى إشعار آخر!
يحدث اليوم ما يحدث على مسرح الضفة الغربية، هذه المنطقة التي شهدت ومن ضمنها العاصمة الفلسطينية منذ النكبة الثانية في عام 1967، عشرات المحاولات اليائسة من قبل الاحتلال، لترويض النار الكامنة فيها بعد الفشل في إخمادها، من مشاريع حكم ذاتي وروابط قرى واستبدال المنظمة بشخصيات محلية، لا ترتبط بالثورة أو بروح حكمة الشعب، كلها فشلت، وكلها أسست لما سُمِّي بعدها بـ«عملية السلام» التي أنجبت مخلوقاً مسخاً، يشبه كثيراً أحلام قادة الكيان المرضى من زاوية ما، سمُّوه اتفاق أوسلو.
تبدو فلسطين برمتها اليوم مرجلاً يغلي، الواهمون من الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948، انفضَّ عنهم غبارُ الخديعة بعد الطرح العلني العنصري ليهودية «الدولة»، في غزة جرتْ محاولة لإنشاء سلطة دينية سياسية الشكل، متفاهمة مع الاحتلال بقدر أعمق من أوسلو، وقد فشلتْ بدورها، في الضفة الغربية يتفكك أوسلو وقد يبالغ البعض بأنه أضحى ميتاً تماماً.
وفي فلسطين أيضاً قيل قديماً بأن «التكرار يعلم الحمار»، يبدو مع كل هذه الحداثة، أن التكرار لم يعلم أحداً، لا الفصائل ولا سلطتي الحكم الوهمي في الضفة وغزة، من تعلّم فقط هم الفدائيون والثوار وبسطاء الناس، الذين شكلوا أكاديمية نضالية، قوامها التجربة المضمخة بالدم والشهداء والبيوت المهدمة وقضبان الأسر.
الغريب هو أن بعض مُخضرمي السياسة والقادة التاريخيين، ما زالوا يراهنون على أنه يمكن أن يكون للهواء لونٌ، علماً بأن تجربة مئة عام ونيِّفٍ، منذ بدء ثورات فلسطين، تفيد ببساطة أنَّ كل ثورة حدثت أجهضها النظام العربي الرسمي، بعد طلب من الصهاينة والبريطانيين والأميركان تواطُؤاً أو عمالةً أو تبعية، وعلى الرغم من التكرار ذي الثمن الدموي للفشل، لم يدرك الساسة الفلسطينيون أن السياسة فن الممكن، بناء على مكامن القوة، وأن فن الثورة بدوره سياسةٌ ممكنةُ الإثمار، وها هم يكررون نفس الخطايا السابقات.
مناطق فلسطين المحتلة عام 48، عادت بوضوح إلى وعي عُمق وأبديَّة الهوية، وساعدها على ذلك غباء النازية الصهيونية، تم تدجين غزة بالشكل الاستعراضي، وقريباً سوف تعود بالضرورة إلى عهد الثورة لا خُطب المقاومة الاستعراضية، مناطق الضفة والعاصمة القدس، وجدت مفاتيح النجاة من براثن الصهيونية في فوهة المسدس، القادة أضاعوا الأبواب، حيث الشارع يقف في أعالي جبال القدس، والقادة قابعون في وادي الأوهام المُتناسلة، وهو ما أنتجَ أخيراً لقاءَ العقبة، الذي ليس إلا محفل خداع وكذب جديد كالعشرات من سابقاته.
بيان اللقاء الختامي، أفاد بأن إسرائيل تلتزم بوقف مناقشة إقامة أية بؤر استيطانية جديدة، هذا يعني الاستمرار في بناء المقرر، ويعني بأنه أصبح مشرّعاً! تلك خطيئة، بل جريمة ديبلوماسية جديدة، وقال إن الجانبين ملتزمان بوقف الإجراءات الأحادية من 3 إلى 6 أشهر، هذا يعني أن الاحتلال سوف يستمر في بناء المستوطنات المقررة ولا «يشرع» بؤراً جديدة، ولسوف يستمر الفلسطينيون في وقف أو تعليق حتى شكواهم للأمم المتحدة! كما أشار البيان الختامي، بأن واشنطن ومن ورائها القاهرة وعمان، تعتبران هذه التفاهمات تقدماً نحو تفعيل العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، أي إعادة التفاوض والتنسيق والاتصالات!
نتنياهو قال صراحة عقب البيان: «سيستمر البناء وشرعنة (البؤر الاستيطانية العشوائية) في يهودا والسامرة [الضفة المحتلة]، وفقاً لجدول التخطيط والبناء، من دون أي تغيير، لا يوجد ولن يكون هناك أي تجميد (للاستيطان)»، ومثله رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي قال: «على عكس التقارير حول قمة العقبة (...) فإنه لا يوجد تغيير في السياسة الإسرائيلية خلال الأشهر المقبلة، وستتمّ (شرعنة) 9 بؤر استيطانية، والموافقة على بناء 9500 وحدة جديدة في الضفة الغربية». مصر شددت على إعادة بناء جسور الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ما تقوله في كل مرة منذ عهد السادات، ثم تأسف بعد شهور أو سنوات لفشل «عملية السلام» وتنتظر عودة المجازر، ومراقبة الوضع حتى يردَّ الفدائيون على المجازر بعمليات تُقلق الاحتلال، ليعود الحديث عن بناء جسور الثقة وإطلاق عملية السلام، إنها المواقف العربية ذاتها منذ قرن خلا، والمتكررة حرفياً والمترجمة عن الإنكليزية، بحسب نص وزارة الخارجية الأميركية الشريكة في المجازر والعدوان، أمّا فصائل المقاومة فقد نددت خطابياً باجتماع العقبة لكنها لم تنبس ببنت طلقة بندقية واحدة!
يُمكن فَهم دوافع ديوان العقبة، عبر استعراض ما جرى في الأسابيع والأشهر الأخيرة، وهي كما يحدث دائماً: تبديد قلق القاتل الصهيوني من المحاسبة، وحمايته.
أسست العقبة كسابقاتها من لقاءات الحرص الدولي والإقليمي على إسرائيل، وهي عملية سلام وأمن للاحتلال الذي لا يُربكه إلا العمليات الفدائية، بعد أن أدرك الانتقالة المهمة للفلسطينيين، من مجرد المقاومة إلى الثورة الحقيقية، وهي الحالة القادمة بشموليتها على ما يبدو، فقد شهدت مناطق فلسطين المختلفة عمليات شجاعة، أربكت وأدمت الاحتلال وصعقت عنجهيته، فها هو يقتل عشرة في مخيم جنين بكامل جيشه وأسلحته، ليقوم فدائي واحد بالرد بمسدس واحد، ويقتل أحد عشر مستوطناً مدججين. بطولات ذات شكل فردي تتيح حرية الحركة، لا مجال للتوسع في ذكرها الآن، ولا سيَما في جنين ونابلس التي جعلت القاتل يدرك توازن مستوى الردع، ها هم الآن يحاولون تشريع إعدام الثوار، ونتنياهو يبحث عن ضالته بحماية قطيع مستوطنيه، الذين إنْ نَفقَ منهم واحد فرَّ ألفٌ خارج البلاد، القلق ازداد بخاصة عندما عبّر الشعب كله عن مساندة «الفدائيين الجدد» الذين يتمتعون برشاقة وشجاعة فاقت تقنيات نجوم هوليوود الخيالية.
هناك خشية من أن تعود «فتح» لتلك المعادلة «by guns freedom comes»، وأن يعود الثوار لسماع صرخة جورج حبش: «لا تراجع.. الثورة مستمرة حتى التحرير».
يسأل العقل الصهيوني منذ أشهر عن كيفية الخلاص؟ البعض عبَّر بتطرف نازي عن ذلك، ثم استنجد بأميركا والنظام العربي، وكان لقاء العقبة الذي شارك فيه الفلسطينيون وكأنهم يحتفلون بتشريع موتهم.
هذه ليست المرة الأولى، فهو ما يحدث منذ ثلاثين عاماً، فهل يعلمنا التكرار أم...؟!