تونس | غير لاوٍ على شيء، يمضي الرئيس قيس سعيد في تنفيذ «مجزرته» بحق من يَتّهمهم بالتآمر للإطاحة بنظام حُكمه. «مجزرةٌ» لا يبدو أنها ستجد لها نهاية قريبة، في ظلّ استمرار موجة الاعتقالات والتوقيفات، وتحضير حُزمة قضايا جديدة ضدّ وجوه وشخصيات قد لا يكون ذنبها سوى أنها أعْلت صوتها بالانتقاد والرفض ضدّ طريقة حُكم سعيد. هكذا، يخلط الرئيس «الحابل بالنابل»، محوّلاً القضاء إلى أداة تصفية حسابات سياسية، ومحيِّداً أيّ مصداقية يمكن أن تكتسبها إجراءاته، في ظلّ حشْره الصالحين والطالحين في خانة التآمر، وعدم تحقيقه إلى الآن إنجازات تُذكَر في ملفّ محاربة الفساد
يكاد سيل الإيقافات والاعتقالات في حقّ المناهضين لسلطة الرئيس قيس سعيد لا يتوقّف في تونس، معيداً إلى الأذهان تساؤل "شهيد حرية التعبير"، زهير اليحياوي، الذي قضى إثر تعذيبه في سجون نظام زين العابدين بن علي: "هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوانات أم سجن؟". الأكيد أن أسس الجمهورية تآكلت؛ فلا ضمانات للحقوق والحرّيات، والسلطات الثلاث انحصرت بموجب وضْع الاستثناء في يد الرئيس، الذي نصّب نفسه خصماً وحَكَماً في آن، معطياً ذاته حقّ اتّهام مُعارضيه وإدانتهم وتعريضهم للسّحل الجماعي من قِبَل أنصاره قبل أن يقول القضاء كلمته. وهكذا، باتت تونس، بالفعل، أشبه بـ"حديقة حيوانات"، طالما أن مجرّد انتقاد السلطة القائمة يُعرّض صاحب الانتقاد للسجن، وهو سجن مفتوح بدليل كمّ الإيقافات والاعتقالات والمداهمات الاستعراضية لمنازل المعارِضين.
وما يزيد الصورة قتامةً، أن عملية "المحاسبة" لم تشمل المُفسدين، أو المسؤولين عن غلاء المعيشة والاختفاء المفاجئ والمريب لأغلب المواد التموينية. لو حصل ذلك، لكانت الإيقافات ذات الطابع السياسي اكتسبت بعضاً من مصداقية، ولكان النظامَين الأمني والقضائي ظهرا، ولو بالنسبة إلى شرائح ما، على أنهما ينشطان في سبيل تحقيق الصالح العام. لكن ما جرى إلى الآن لا يعدو كوْنه عملية تصفية سياسية لخصوم الرئيس، وحتى لحلفائه إلى الأمس القريب، بدعوى وجود مؤامرة لـ"تبديل هيئة الحُكم"، كما ورد في ملفّ القضية. على امتداد سنتَين، بدا سعيد، في حملاته الاستعراضية، وكأنّه يقول: "أنا هنا قادر على إدخال مَن أريد إلى السجن"، ولكن التحقيقات القضائية سرعان ما تخذله - على رغم عبثه بالسلطة القضائية وحلّه مجلسها الأعلى وتعويضه بآخر مُوالٍ له -، ليتمّ إطلاق سراح الموقوفين بسرعة قياسية هزّت مصداقية الرئيس. ولعلّ جانباً من ذلك الاستعراض، يتجلّى في إيقاف القيادي في حركة "النهضة"، نور الدين البحيري، الذي كلّما خفتت شعبيّة سعيد، سارع القضاء إلى استدعائه وراشد الغنوشي وعلي العريض للتحقيق، قبل أن ينتهي الأمر غالباً بالإفراج عنهم.
هذه المرّة، لم يستند النظام إلى ملفّ موجود على غِرار ملفّ الاغتيالات السياسية كسبب للإيقافات


لكن هذه المرّة، لم يستند النظام إلى ملفّ موجود على غِرار ملفّ الاغتيالات السياسية كسبب للإيقافات، بل خلَق سردية جديدة مبنيّةً في مجملها على شهادة مُخبرين فقط. إذ تقول محاضر استنطاق المتّهَمين، والتي نشرها المقرَّبون من القصر الرئاسي على مواقع التواصل الاجتماعي، إن المستشارة السياسية للسفارة الأميركية أجرت اتّصالات مع رجال أعمال وسياسيين تونسيين من "جبهة الخلاص الوطني" وبقيّة أطياف المعارضة ومسؤولين أمنيين، جرى خلالها التشديد على وجوب تعميق الأزمة الاقتصادية في البلاد، خصوصاً لناحية فقدان المواد التموينية الضرورية للطبقات الوسطى والفقيرة، حتى تقوم حركة اجتماعية مناهضة لسعيد، وتلتحم مع الحركة السياسية المُعارضة له. وشملت الإيقافات كلّ مَن أثبتت التحرّيات لقاءه المسؤولين الأميركيين أو زيارته لمنزل رجل الأعمال والسياسي خيام التركي (الذي انتظمت اللقاءات في منزله)، وعلى رأس هؤلاء رئيس "الحزب الجمهوري" عصام الشابي، والقياديَين في "جبهة الخلاص الوطني" جوهر بن مبارك وشيماء عيسى، وعدد من رجال الأعمال، فيما ورد في قائمة المطلوبين أيضاً اسم أحد مُنظّري "الربيع العربي" والمروّجين لنظرية الإسلام السياسي الجديد، برنار هنري ليفي، بالاستناد إلى وجود تواصُل معه من قِبَل بعض المطلوبين أو المعتقَلين في إطار المشورة حول الطرق الأفضل لإسقاط سعيد.
بدت هذه الرواية المتمحورة حول "الدفاع عن البلاد ضدّ المتآمرين والخونة والعملاء"، مناسِبةً تماماً لإعادة تحريك جماهير يائسة عزفت عن الاهتمام بالشأن العام. وحتى تكتمل سردية "المؤامرة"، كان لا بدّ من استدعاء مشكلة الهجرة غير النظامية لأفارقة جنوب الصحراء، والتي اعتبرها سعيد، في خطابه الشوفيني الذي سبق حملة الاعتقالات، عملية مدبّرة من أجل استبدال سكّان جُدُد أفارقة "سود" بسكّان تونس الأصليين العرب والمسلمين، ليتحوّل النضال الافتراضي ضدّ "الاستبدال الديموغرافي الكبير"، سريعاً، إلى أعمال عنف وعنصرية ضدّ الأفارقة "السود"، جعلت البلاد في مرمى الانتقادات. ومع ذلك، فقد استطاع سعيد، من خلال تلك التكتيكات المحسوبة في التوقيت والأهداف، إعادة إنعاش شعبيّته التي كانت بدأت تذوي. وهي تكتيكات لم تستثنِ في شقّها المتعلّق بالتوقيفات شخصيات معروفة بوطنيّتها ووفائها للبلاد وتمسّكها بمبادئها، حتى خلال وجودها داخل مؤسّسات الدولة في أعقاب الانتفاضة، حيث ظلّ موقفها نقدياً دائماً سواءً إبّان العشرية أو في "سنتَي الاستثناء" من عمر نظام سعيد.
هكذا، استهدف النظام كلّاً من الشابي، والأمين العام السابق لـ"التيّار الديموقراطي" غازي الشواشي، والمناضل الكبير عز الدين الحزقي، وحشَرهم في الخانة نفسها مع شخصيات تحوم شبهات حول علاقاتها وأدائها السياسي، مُوجِّهاً أنصاره برجْمهم والحُكم عليهم مسبقاً بالعمالة والتآمر. وهو ما لا يبدو أنه سيتراجع عنه، بل يَظهر أن الترتيب جارٍ لِما يماثله في قضايا أخرى، من بينها قضية "هضْم جانب موظف عمومي" المرفوعة ضدّ نقيب الصحافيين مهدي الجلاصي، وعدد من شباب "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" والجمعيات الحقوقية النشِطة، ومن بينهم نورس الدوزي وأسرار بن جورية وخليل الزغيدي، وهؤلاء جميعاً لم يغيبوا يوماً عن أيّ تحرّك حقوقي، وقدّموا الدعم المعنوي والمادّي والقانوني لضحايا القمع البوليسي على امتداد العشرية الماضية، وكانوا دوماً على عداء مع النقابات الأمنية على خلفية استغلال الأخيرة نفوذها من أجل حماية عناصرها الأمنيين عند ارتكابهم الانتهاكات. ولعلّ المفارقة أن المذكورِين لا يجدون أنفسهم مطلوبين للقضاء بسبب النزاع المتواصل مع تلك النقابات، وإنّما لمشاركتهم في مسيرة سلمية في شهر كانون الثاني الماضي، دعت إلى إسقاط نظام سعيد. باختصار، يقول النظام لمُعارضيه إن القمع سيطال الجميع متى هاجموه، فيما ينبّهه مراقبون إلى أن دعواته المتوالية إلى المعارضين للمثول أمام القضاء والوحدة المختصّة بمكافحة جرائم الإرهاب أو تلك المختصة بالجرائم المالية، إنّما سترتدّ في نهاية المطاف عليه، كوْنها تتسبّب بتعميق الأزمة السياسية، وتدفع مُناوئيه إلى التوحّد في وجهه، وتُعيد الكثيرين ممّن ابتعدوا عن العمل السياسي إلى "واجب النضال" ضد القمع والتعسف.