رام الله | لم يكن الحبر الذي وُقّع به بيان اجتماع العقبة الأمني، والذي عُقد برعاية أميركية بمشاركة السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال ومصر والأردن، قد جفّ بعد، بينما خرج رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، ووزيرا «الصهيونية الدينية»، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لازدراء ما جاء في البيان والتنكّر له، في ما مثّل لطمة أولى على وجه كلّ من واشنطن ورام الله التي لم تَجِد بدّاً من الانصياع للرغبة الأميركية. وأثبتت تلك المواقف، من جديد، تبنّي حكومة نتنياهو الصريح للمشروع الاستيطاني في الضفة، ومنْحها المستوطنين الضوء الأخضر للعربدة هناك، والمُضيّ قُدُماً في مشروع إقامة دولتهم، على أساسَي التوسّع في بناء المستوطَنات، وتشكيل ميليشيات مسلّحة يمكن لها أن تتطوّر إلى جيش أو تشكيلات عسكرية في الوقت القريب، وهو ما تُرجم بشكل سريع في الهجوم على بلدة حوارة.

وقال نتنياهو، عقب اجتماع العقبة: «على عكْس التغريدات، فإن البناء وتسوية المستوطنات في يهودا والسامرة سيستمرّان وفقاً لجدول التخطيط والبناء الأصلي، من دون أيّ تغيير»، فيما أكد رئيس «مجلس الأمن القومي»، تساحي هنغبي، الذي ترأّس الوفد الإسرائيلي إلى القمّة، أنه «على عكْس التقارير والتغريدات عن الاجتماع في الأردن، لا يوجد تغيير في السياسة الإسرائيلية. في الأشهر المقبلة، ستنظِّم إسرائيل 9 بؤر استيطانية، وتصادق على بناء 9500 وحدة سكنية جديدة في يهودا والسامرة. لا يوجد أيّ تجميد للبناء أو تغيير في الوضع الراهن على جبل الهيكل (الحرم القدسي)، ولا يوجد أيّ تقييد لأنشطة الجيش الإسرائيلي». ولم تكد تَصدر هذه التصريحات حتى جاء الهجوم الكبير على بلدة حوارة مساء الأحد، من قِبَل 400 مستوطِن مسلّحين بالبنادق الآلية، بدا وكأنّهم يُحاكون هجمات عصابات «الهاجاناة» و«شتيرن وارغون» الإرهابية عام 1948، حيث أطلقوا الرصاص على الفلسطينيين، وأشعلوا النار في ممتلكاتهم. وبحسب الإحصائيات الفلسطينية، فقد سُجّل في حوارة وقريتَي بورين وعصيرة القبلية القريبتَين منها، نحو 300 اعتداء مساء الأحد، تَخلّلها إحراق للمنازل واستهداف لها (حرْق أو تكسير 30 بيتاً في حوارة، وإحراق 15 مركبة ومشطب مركبات هناك)، والاعتداء على المواطنين الذين سقط من بينهم الشهيد سامح أقطش (37 عاماً)، فيما أصيب أكثر من 390 آخرون بينهم 4 بجروح. أيضاً، شهدت بورين إحراق «بركس» وحظيرة أغنام وثلاث مركبات، ومحاولة إشعال النار في أحد المنازل، بينما شهدت عصيرة القبلية إحراق منزل وخزان مياه، وبلدة أودلا تهشيم مشطب للمركبات.
وتنامت عصابات المستوطِنين في الضفة الغربية خلال السنوات الماضية، حيث ازداد تسلُّحهم وتجرّؤهم على شنّ هجمات قاتلة على القرى والبلدات الفلسطينية، باستغلال الضوء الأخضر الممنوح لهم من قِبَل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والسياسة الفلسطينية المتّبَعة منذ تولّي محمود عباس رئاسة السلطة، والقائمة على إنهاء خلايا المقاومة ومجموعاتها التي كانت تستهدف المستوطِنين على الطرق والشوارع الالتفافية وتُعرقل تَنقّلاتهم. ومنذ توقيع «اتّفاقية أوسلو» عام 1993، شبّ المشروع الاستيطاني في ظلال المفاوضات التي كانت تَجري بشكل محموم، وتضاعَف عدد المستوطِنين والوحدات الاستيطانية بشكل كبير. إذ وفقاً لإحصاءات كتلة «السلام الآن»، فإن عدد المستوطِنين عند التوقيع على «اتفاقية أوسلو» لم يكن يتجاوز 150 ألفاً، قطنوا في 144 مستوطَنة وبؤرة استيطانية في الضفة والقدس وقطاع غزة، غير أن هذه التجمّعات باتت اليوم تُناهز 176 مستوطَنة، و186 بؤرة (نواة مستوطَنة)، أقيمت 10 منها خلال عام 2022، بالإضافة إلى بؤرتَين تمّت شرعنتهما. أمّا المستوطِنون فقارب عددهم في الضفة الـ700 ألف، والـ300 ألف في القدس، بينما امتدّ عمران المستوطَنات على مساحة 600 ألف دونم، بما يشكّل نحو 12% من مساحة الضفة، يضاف إليها نحو مليونَي دونم، هي مساحة مناطق نفوذ «المجالس الإقليمية للمستوطَنات»، والتي تشمل غابات شاسعة لا تدْخل في منطقة العمران والبناء؛ وبذلك، باتت مساحة الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت سيطرة المستوطَنات مباشرة تبلغ نحو 40% من مجمل مساحة الضفة. وشهد الاستيطان نموّاً تجاوَز 240% مقارنة بما كان سائداً قبل توقيع «اتفاق أوسلو» ومن ثمّ قيام السلطة الفلسطينية عام 1994. وفي عام 2022 وحده، صادقت حكومة الاحتلال على 83 مخطّطاً لبناء 8288 وحدة جديدة في الضفة، و2635 وحدة في القدس، وصادرت قرابة 26 ألفاً و500 دونم تحت مسمّيات مختلفة مِن مِثل إعلان محميّات طبيعية، أو أوامر استملاك ووضع يد باعتبار الأراضي المستهدَفة بها «أراضي دولة».
يأتي هجوم الميليشيات الاستيطانية على حوارة ليضيف عامل تفجير آخر إلى المشهد


ويأتي هجوم الميليشيات الاستيطانية على حوارة ليضيف عامل تفجير آخر إلى المشهد، الذي بات «أكثر قرباً من التصعيد ممّا كان عليه في أيّ وقت منذ عملية حارس الأسوار» - وفق مصدر سياسي إسرائيلي -، وهو ما حمل جيش الاحتلال على الدفع بثلاث كتائب إضافية من جنوده إلى الضفة. ووفق المعطيات، فإن الجيش كان يعلم مسبقاً بنيّة المستوطِنين مهاجمة البلدة الفلسطينية، إلّا أنه غضّ الطرف عن ذلك ولم يفعل شيئاً، الأمر الذي لا يُعدّ مستغرَباً بالنظر إلى ما تحظى به تلك الميليشيات من حماية منذ زمن، تَدفعها إلى ممارسة عدوانيّتها من دون رادع. وأظْهرت مقاطع مصوَّرة من حوارة، المستوطِنين وهم يؤدّون طقوساً تلمودية ويرقصون أمام النار المشتعلة بممتلكات الفلسطينيين. وفي حين تَوجّه عدد منهم إلى موقع بؤرة «أفيتار» في محاولة لاستيطانها مرّة أخرى، وضع وزير المالية والوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، علامة إعجاب على تغريدة تدعو إلى شطب قرية حوارة من الوجود، كان نشرها ديفيد بن تسيون، نائب رئيس «المجلس الإقليمي في السامرة»، والذي كتب: «يجب شطْب قرية حوارة من الوجود اليوم. يكفي حديثاً عن البناء وتعزيز المستوطنات. يجب إعادة الردع المفقود على الفور ولا مكان للرحمة».
وتحيط بحوارة والقرى القريبة منها مستوطنات عدّة يعيش فيها غُلاة المتطرّفين الدينيين الذي شكّلوا على مدار السنوات الماضية ميليشيات مسلّحة شنّت هجمات دموية على الفلسطينيين. وبحسب دراسة لـ«مركز مدار»، فإن مستوطَنات «سفوح الجبال» تُصنَّف إسرائيلياً على أنها مستوطنات أيديولوجية، تضم تيّار المستوطنين الأكثر عنصرية؛ إذ يتبنّى هؤلاء الفكر الاستيطاني الصهيوني، ذا الطابع الديني - القومي، كعقيدة ونمط حياة، ويُكنّون العداء الشديد للعرب، وهو ما يُترجم في انضوائهم ضمن مجموعات إجرامية مِن مِثل «شبيبة التلال». ومستوطنات «سفوح الجبال» هي: «إيتمار»، «ألون موريه»، «هار براخا»، و«يتسهار»، بالإضافة إلى المستوطنتَين الزراعيتَين «جفعات عولام» و«حفات جلعاد»، وهي تقع في منطقة «جبال السامرة الشرقية» - كما يُطلَق عليها إسرائيلياً - أي المنطقة التي تشمل قرى عقربا، حوارة، بيتا، عورتا، عصيرة القبلية، عينبوس، عوريف، بورين، عزموط، سالم ودير الحطب الفلسطينية إلى الشرق من مدينة نابلس. وتنحدر فكرة «سفوح الجبال» من نمط «السور والبرج» (حوما فمجدال)، وهو أحد أنماط الاستيطان اليهودي الذي سبق «إقامة الدولة» خلال الفترة الممتدّة ما بين عامَي 1936 و1939، بهدف تسريع عملية سيطرة اليهود على الأراضي، وتجنُّب القيود التي كانت تفرضها بريطانيا على الاستيطان، في بعض الأحيان، وفق اعتبارات سياسية وأمنية (تضمّنت تلك المستوطنات تحصينات عسكرية كالأبراج، الأمر الذي أكْسبها تسميتها لاحقاً).
بالنتيجة، «دولة إسرائيل تجعل الانتقام سياسة رسمية. هناك مذابح جامحة في حوارة، بورين، ياسوف وسلفيت، أكثر من 100 جريح، والآن تقام بؤرة استيطانية غير قانونية في أفيتار. وهذا كلّه برعاية الدولة – الحكومة، وقوّات الأمن تسمح بهذه الفظائع»، وفق ما علّقت به منظّمة «يش دين - متطوّعون لحقوق الإنسان» على أحداث حوارة. وإذ يدرك المستوطِنون أنهم أمام واقع قد يكون الأفضل لمشروعهم في الضفة الغربية، حيث يجعلهم قاب قوسين أو أدنى من تأسيس «دولتهم» بميليشيات مسلّحة أقرب إلى الجيش المنظّم، فإن تيّار «الصهيونية الدينية» يعوّل عليهم لتكريس سياسة الطرد والتهجير والقتل بحقّ الفلسطينيين، وهو ما يفسّر بدء ذلك التيّار، سواءً عبر وزرائه في الحكومة أو نوّابه في «الكنيست»، حملة لتشريع ما يستطيع من قوانين داعمة للمستوطِنين، من بينها قانون ترخيص حمْل السلاح، والذي قادَ بن غفير معركة تمريره.



أريحا لا توقف النار: عملية «نظيفة» تحصد مستوطناً
قبيل غروب الأمس، بدأ الأمر بإطلاق نار من سيارة على أخرى، يقودها مستوطن عند مفرق بيت عربا قرب أريحا. أُصيب المستوطن في الجزء العلوي من جسده، برصاصة واحدة، ثم نُقل إلى المستشفى، لكنه ما لبث أن مات. بعد دقائق، أُعلن عن تعرّض سيارة مستوطنين ثانية لإطلاق نار. كانوا 4 في المركبة، لكن لم يُصب منهم أحد. وعلى الأثر، أطلق المقاومون النار على سيارة ثالثة، ثم ركنوا سيارتهم، وأضرموا فيها النيران، وخرجوا من المكان، واشتبكوا مع قوة من شرطة العدو، قبل أن يختفوا. كل عمليات إطلاق النار تلك، كانت على «الطريق 90» في أريحا. حشد العدو قواته، وأقام حواجز تفتيش، وأغلق مداخل ومخارج المدينة، وحاصر مخيّماتها. وفي السماء، أرسل طائرات مروحية ومسيّرة، تمشّط المنطقة بحثاً عن المقاومين. إلى ساعة متأخرة من ليل أمس، لم تكن لدى العدو أيّ معلومات عن هوية منفّذي العملية، سوى أنهما اثنان، إلا أن الأجهزة الأمنية تؤكد أنهما انسحبا باتجاه مخيم عقبة جبر. المخيّم نفسه، هو الذي اقتحمته قوات العدو قبل أيام، وأعدمت مجموعة من مقاومي «كتيبة مخيم عقبة جبر»، واعتبرت أنها قضَت على المقاومة هناك، وكوَتها. أمس، عقب الهجوم، عادت وسائل إعلام العدو لتتحدّث عن أن الخلية التي نفّذته، تتبع لـ«حماس»، وأنها تنتمي إلى «كتيبة المخيم». في المقابل، قالت «حماس» إن عملية إطلاق النار التي وقعت قرب أريحا، هي «ردّ طبيعي على الجرائم الإسرائيلية، وعلى إسرائيل أن تنتظر المزيد».