ريف دمشق | «لم تعد هناك ثورة؛ التطرف لم يقتلها فحسب، بل أخذ يقتل أيضاً كل المنتمين إليها ممن أفلتوا من سطوة النظام»، يقول أحد المقاتلين السابقين في «جبهة النصرة». يضيف: «أنا شخصياً، رغم أنني قاتلت ضمن تنظيم ينتمي إلى القاعدة، كنت مؤمناً بشيء اسمه ثورة على النظام. لكن مجيء داعش جعلنا نصطدم بحقيقة أن أحلامنا تلك أشبه بأوهام طفل صغير بأن يصير بطلاً خرافياً يوماً ما».
هذا المسلّح، الذي يقيم حالياً في تركيا، ومثله كثيرون ممن قاتلوا مع «جبهة النصرة» أو «الجيش الحر» أو «الجبهة الإسلامية»، اضطروا إلى مغادرة البلاد تحت وطأة الضربات والتهديدات التي وجّهها «داعش» إلى تنظيماتهم. تركيا كانت الوجهة الوحيدة لهؤلاء حتّى الآن، «فهي البلد الوحيد الذي يقبل بدخول المسلّحين إلى أراضيها بصفتهم لاجئين، من دون أن تثير أيّة مشكلة معهم. هنا في إسطنبول التقيت بعشرات ممن كانوا مسلّحين في الفصائل المختلفة، بعضهم كانوا قادة ميدانيين».
يخضع مسلّحو «ما قبل داعش» لحالة فرز حادّة منذ ظهور الأخير على نحو واضح في الأراضي السورية، قبل شهور. مصادر متطابقة من تنظيمات مسلحة عدة أكّدت لـ«الأخبار» أن «داعش» يمتلك قوائم بأسماء المطلوبين من هذه التنظيمات، «تضم غالباً أسماء زعامات ميدانية خاضت مواجهات ضدّه، إضافة إلى أسماء أخرى من غير المعروف، حتّى الآن، لماذا وضعت ضمن تلك القوائم». العقوبة المفترضة لهذه الأسماء هي القتل، فيما يُطلب ممن بقي «البَيعة»، كقاعدة عامة، يحدث هذا عندما يستولي «داعش» على مناطق نفوذ الفصائل المسلّحة الأخرى. يقول عبد الإله، أحد مسلّحي «الجيش الحر» في الغوطة الشرقية، لـ«الأخبار»: «في ليلة وضحاها، وجدنا أنفسنا أمام خيارين: إما أن تترك السلاح وتهرب إلى تركيا، أو أن تبايع داعش». يروي عبد الإله قصة ظهور «داعش» المفاجئ في الغوطة الشرقية: «حتى الأمس القريب، كان ذكر اسم هذا التنظيم أقرب إلى النكتة بين المسلّحين. وفجأةً، ظهرت له قيادات ومقارّ وعناصر. لم يأتوا من المريخ، معظمهم من مسلّحي الفصائل ذاتها. المال هو ما دفعهم إلى ذلك». يشبّه الرجل انتقال مسلّحي الفصائل المتعدّدة في الغوطة الشرقية إلى «داعش» بـ«انتقالهم قبل نحو عامين من الجيش الحر إلى جبهة النصرة، يوم انصبّ التمويل بمعظمه على هذه الأخيرة». بالتوازي مع ذلك، هناك سبب آخر لهذا الانتقال، هو «الخوف من هذا التنظيم المتشدّد، الذي ما انفك يطحن الفصائل الأخرى لدى تمدّده قادماً من المناطق الشرقية». يترتب على كل هذا أن عبد الإله، ومعه مجموعة من الشباب، سيغادرون البلاد كمدنيين، عبر طريق باتت معروفة: «عبر البادية السورية إلى أطراف دير الزور الغربية، حيث سينتظرنا مهربون مسلّحون يؤمنون لنا الطريق إلى ريف الرقّة الجنوبي، ومنها إلى إدلب فتركيا».
في مقابل هؤلاء، بايع قسم من المسلّحين «داعش»، فيما يُضمر قسم آخر نيته مبايعة ذلك التنظيم في الوقت المناسب. «الحرب حوّلت الكثير من المسلّحين إلى ممتهني معارك واشتباكات. مرتزقة لا يأبهون بالراية التي يقاتلون تحتها ما دام المال متوافراً»، تقول الناشطة المعارضة حسناء إبراهيم لـ«الأخبار». وتشرح: «ضمن الفرز الذي يشهده مسلّحو ريف دمشق، لوحظ أن القوى المرتبطة بالثورة والمعارضة، وأغلبهم من الشباب، يرغبون في السفر خارج البلاد. فيما المسلّحون الأكبر سنّاً، ومتزعمو المجموعات التي كانت تقوم بعمليات السرقة والتشليح والخطف والسطو يتحيّنون الفرصة الملائمة للانضمام إلى داعش، بعضهم قد انضمّ بالفعل». تستدرك الناشطة بشيء من الاستياء: «كيف يمكن مَن خرج في التظاهرات لحرية سوريا أن يفضّل سراب الهجرة على بلده بعد كل ما مرّت فيه؟! من المؤسف حقّاً أن الكثير ممن فرّوا إلى خارج سوريا من معارضين ومسلّحين، تراهم اليوم على صفحات التواصل الاجتماعي ينشرون صورهم في تركيا، كداعمين لحملة أردوغان (رئيس الوزراء التركي)، حاملين شعارات ميدان رابعة المصري (الإخوان المسلمين) ولافتاتها! وكأن شيئاً لم يكن؟».
لا تنسحب خيارات الهجرة على المسلّحين وحدهم، فالعديد من ناشطي المعارضة المدنيين باتوا يفضّلون السفر ضمن الظروف التي تمر بها البلاد. فادي الحلبي، معارض فقد الأمل من جدوى العمل السياسي، اختار الهجرة غير الشرعية إلى أحد البلدان الإسكندنافية. يروي لـ«الأخبار»: «ما الذي يمكننا فعله في هذه الظروف العصيبة؟ من الواضح أن الأمور ذاهبة نحو مواجهة خطيرة ومديدة بين الدولة وداعش. لم يعد لنا أي مكان في هذا المشهد».