تونس | عادت تونس، مجدّداً، لتعيش على وقْع نسَق مستعر من التوقيفات المبهمة، والتي تغيب أيّ معلومة رسمية حول أسبابها، أو التُهم الموجّهة إلى المعتقَلين فيها. وفيما لا يزال المؤمنون بسلطة قضائية تعمل وفق المعايير الدولية يضغطون من أجل توضيح تلك الأسباب، ومدى الاستجابة للشروط الإجرائية في تنفيذ الاعتقالات، وصف الرئيس التونسي، قيس سعيد، الموقوفين بأنهم «متآمرون ومخرّبون وإرهابيون»، متحدّثاً من مقرّ وزارة الداخلية، ليلة انطلاق الاعتقالات، عن وجود «مخطّط لاغتياله وقلْب نظام الحكم». وجاءت التوقيفات لتضرب عرض الحائط بالتكهّنات التي كانت راجت حول مصالحة بين سعيد وخصومه، على ضوء تداول صورة لوزراء في حكومة الرئيس يضعون أيديهم فوق يدَي رئيس حزب «النهضة» راشد الغنوشي، ورئيس «الحزب الجمهوري» عصام الشابي، لقطْع كعكة «الصداقة الإيرانية - التونسية» في مقرّ إقامة سفير طهران في تونس. ودأبت العادة على أن يجتمع الفرقاء، الذين يتقاذفون في ما بينهم الاتهامات بـ«العمالة لإيران»، في بيت السفير الإيراني منذ سنوات، إلّا أن السياق الراهن الذي انتشرت فيه الصورة أطلق تكهّنات في شأن «دور فاعل» لإيران في تحقيق المصالحة.وبالفعل، هزّت الصورة الرأي العام لبضع ساعات، ثمّ جاءت الاعتقالات لتغطّي عليها، بعدما أذنت النيابة العامة بالتحقيق مع بعض الشخصيات في قضايا تخصّ «التآمر على أمن الدولة»، و«التخابر لفائدة جهات أجنبية». وتفيد تقارير أمنية بعقْد هذه الشخصيات لقاءات مكثّفة مع سفراء أجانب، فيما يجري التحقيق أيضاً في تهم أخرى من قبيل «تكوين عصابة للاحتكار ورفْع الأسعار وخلْق ندرة المواد التموينية في السوق التونسية». وافتتحت النيابة العامة إجراءاتها باعتقال كمال اللطيف، أحد أكثر الشخصيات غموضاً وعملاً في كواليس السياسة، وواحد من أثرى رجال الأعمال التونسيين، والذي كانت له منذ ما قبل الانتفاضة علاقة متقاطعة أحياناً ومتصادمة أخرى مع نظام زين العابدين بن علي، بينما يُقال إن صِلاته المترامية مع السفارات - وبخاصة الفرنسية والإيطالية والأميركية - حمتْه، آنذاك، من بطش النظام إلى حين انتهاء العداوة بينهما تماماً. وخلال الانتفاضة، كشفت تسريبات صوتيّة لبن علي، قبل ساعات من فراره إلى السعودية، توسّله كمال اللطيف من أجل التدخُّل لدى قوى إقليمية لتغيير موقفها منه، بعدما نصحتْه بضرورة مغادرة البلاد، ليتّضح في ما بعد أن اللطيف هو «صديق الولايات المتحدة» الذي أكدت هيلاري كلينتون، في كتاب مذكّراتها، أنه «رتّب اللحظات الأخيرة لمغادرة بن علي، واستلام الحكومة الانتقالية السلطة». وتَواصل الدور الخفيّ لرجل الأعمال بعد الانتفاضة، فكان الورقة التي تَرفعها منظومة الحُكم المؤلّفة من «النهضة» وحلفائها، لتتّهمه بـ«تعطيل أهداف الثورة والسيطرة على الاقتصاد»، ومن ثمّ كسْب تأييد الجماهير الناقمة عليه بسبب ثرائه الفاحش وقدرته على شراء الذمم.
ضرب اعتقال الجلاصي مصداقية بقية الاعتقالات في الصميم


والظاهر أن النظام الحالي استشعر، بدوره، الخطر من تحرُّكات اللطيف الأخيرة، وخصوصاً تواتُر لقاءاته مع عدد من سفراء «مجموعة الثماني»، وما عناه ذلك من أنه ربّما تعهّد لهم بالعمل على إعادة ترتيب المرحلة المقبلة، وطيّ صفحة سعيد. وعلى هذه الخلفية، جاء اعتقال الرجل، ليُحوّل الرئيس إلى بطل في غضون ساعات، باعتباره الرجل الوحيد في منظومات الحُكم المتعاقبة الذي كسر حصن اللطيف الحصين، ومكّن القضاء من إصدار قرار بجلبه في قضيّة تآمر وتخابر، حتى وإنْ كان توقيفه سيقتصر على بضعة أيام فقط. ولكن الانتشاء بهذا الإنجاز لم يدُم طويلاً، بعدما شملت التوقيفات، القيادي في «النهضة»، نور الدين البحيري، للمرّة الثالثة في غضون سنتين، والقيادي السابق المستقيل من الحزب، عبد الحميد الجلاصي. وإذا كانت الشكوك حول ضلوع البحيري في محاولة إنهاء حقبة سعيد بأيّ طريقة تبدو وجيهة، نظراً إلى الدور الذي لعبه الرجل داخل «النهضة» وفي البلاد خلال عقد من الزمن، إلّا أن توجيه التهمة نفسها إلى الجلاصي بدا صادماً بكلّ المقاييس، إذ لم يُعرف عنه سوى أنه رجل فكر وبعيد من المؤامرات السياسية، إضافة إلى كونه صوتاً ناقداً للغنوشي داخل الحزب. وبهذا، ضرب اعتقال الجلاصي مصداقية بقية الاعتقالات في الصميم، قبل أن يقْدم نظام سعيد على خطوة أكثر ارتباكاً باعتقال مدير عام إذاعة «موزاييك أف أم» - أهمّ إذاعة خاصّة في البلاد وأكثرها جماهيرية ونقداً للرئيس -، والذي شملت التحقيقات معه أسئلة عن الخطّ التحريري للإذاعة واختيار العاملين فيها. وبذلك القرار، تفاقَم عداء الجسم الصحافي لسعيد، فيما انتظمت وقفات احتجاجية للصحافيين في جميع جهات البلاد، ونظّمت «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين»، مسنودة بعدد واسع من المنظّمات الحقوقية والشخصيات الوطنية، احتجاجاً أمام قصر الحكومة في القصبة للتعبير عن رفضها قرار اعتقال مدير الإذاعة، والذي اعتبرت أنه يأتي في سياق «تشفّي منظومة سعيد من الإعلام، بعد فشله في تدجينه وتحويل جميع المؤسسات الإعلامية إلى بوق دعاية له، على غِرار ما فعله في التلفزيون الرسمي بعد تعيين مشرفين موالين للقصر الرئاسي على رأسه».
ومثّلت هذه «الدعسات الناقصة»، التي يبدو واضحاً أن غرضها لجْم الأصوات الناقدة ذات التأثير، مبرّراً كافياً للأطراف الخارجية للإدلاء بدلوها. إذ أعربت الخارجية الأميركية عن قلقها من الأنباء حول توقيف شخصيات تونسية وصحافيين، ومن «انحدار حقوق الإنسان وحريّة الصحافة». وإذا كانت الديبلوماسية التونسية قد تعوّدت منذ حقبة الباجي قائد السبسي اعتماد «اللاردّ» على هكذا مواقف، إلّا أن ذلك تَغيّر في ظلّ السلطة الحالية، إذ سارع وزير الخارجية، نبيل عمار، إلى إبداء قلق بلاده من جرّاء التدخّل في شؤونها، وعدم احترام سيْر تحقيقات قضائية «تهمّ أمن تونس وشعبها».