الضربة الثانية التي تلقّاها كثيرٌ من السوريين، باضطرارهم إلى ترْك منازلهم جرّاء كارثة الزلزال، لم تكن أقلّ قسوة من تلك التي واجهتْهم قبل سنوات، عندما اضطرّوا إلى مغادرة منازلهم عنوةً بفعل الحرب. أولئك الذين لم يختاروا طريقاً لهم خارج حدود بلدهم، وكانوا بدأوا التأسيس لحياة جديدة مُحاوِلين استعادة ما خسروه من ممتلكات وذكريات، أتت الكارثة لتُعيد نكْء جراحهم، وتصيبهم بلعنة النزوح من جديد، مُرجعةً إيّاهم إلى «ما تحت الصفر». نسر حيدر (43 عاماً) غادر مع زوجته وأولاده مدينة داريا في ريف دمشق عام 2013، بعد تعرُّضه للكثير من المضايقات من قِبَل الجماعات المسلّحة التي سيطرت على المنطقة آنذاك، تاركاً خلْفه منزلاً وأراضيَ و«حياة مرفّهة وأجمل الأيّام» كما يقول، مختاراً مدينة اللاذقية ليستقرّ فيها ويؤسّس عملاً في مهنته (معلّم موبيليا) التي كانت أغلى ما يملك بالنسبة إليه خارج مدينته، بحسب وصفه. وعلى رغم الصعوبات التي غالَبها في «التأسيس» هناك، استطاع الوصول إلى نصف ما كان عليه قبل النزوح الأوّل، ليأتي النزوح الثاني ويعيده إلى «ما قبل نقطة البداية». يقول نسر لـ«الأخبار»: «كنتُ أَتوقّع أنّني لن أخسر أكثر ممّا خسرتُه عندما قرّرتُ مغادرة مدينتي وترْك رزقي، ومع ذلك لم أفقد الأمل في العودة أو تحقيق الأفضل، أمّا اليوم فالخسارة أكبر، خسرتُ كلّ ما أملك؛ منزلي الجديد وكلّ ما فيه، والحمد لله أنّنا ما زلنا على قيد الحياة»، لافتاً إلى شعور القهر الذي ينتاب مَن يبيت في العراء مع عائلته، وهو شعورٌ جرّبه مرّتَين: الأولى في اليوم الذي غادر فيه داريا، والثانية يوم الكارثة المشؤوم قبل أن يلتجئ إلى منزل أحد أصدقائه، مضيفاً: «كانت الأخيرة أقلّ قهراً، خاصة أن حالنا كحال الكثيرين، لكنها أكثر إثارة للخوف».
تَجد لجان الكشف الإنشائي صعوبةً في إقناع الناس بضرورة هدْم البيوت المتضرّرة جزئياً

من جهتها، انصاعت زبيدة داده (45 عاماً) لقرار الإخلاء الفوري لمنزلها المُهدَّد بالسقوط جرّاء الزلزال، والذي كانت تستأجره في مدينة جبلة. ومع ذلك، فهي ترى أن خسارتها اليوم بسيطة أمام ما ضيّعتْه يوم فرّت هاربة وعائلتها من مدينة جسر الشغور في إدلب عام 2014. تقول لـ«الأخبار»: «بعد تهديدنا بالقتل آنذاك، غادرْنا منزلنا من دون أن نَحمل معنا حتى بطاقاتنا الشخصية، تركْنا كلّ شيء ونجوْنا بأرواحنا، وبدأت معاناتنا مع حياة جديدة يَنقصها كلّ شيء»، مضيفةً: «كلّ تلك السنوات ونحن نعيش بالحدّ الأدنى، إلى أن حلّت الكارثة. نجوْنا أيضاً وخسرنا شويّة عفش». وتَلفت داده إلى أن قسرية الخروج والمصير المجهول وانتظار المساعدات هي القواسم المشتركة بين نزوحَيها الأول والثاني، إلّا أنها تعتقد أن الوضع الحالي لا يحمل أيّ بصيص أمل في العودة إلى ما كانوا عليه، وخاصة في ظلّ وجود آلاف العائلات التي تعاني مِثل عائلتها.
وإذا لم يكن صعباً اقتناع مَن هوى منزله أمام عينيه بأنه لم يَعُد له خيارٌ إلّا النزوح، فإن مَن يرى بيته لا يزال «واقفاً على قدمَيه» ولو مهلهَلاً، سيحاول قدرْ الإمكان التمسّك به، وخاصة في حال سَبق له أن ضيّع منزله في الحرب. ومن هنا، تَجد لجان الكشف الإنشائي صعوبةً في إقناع الناس بضرورة هدْم البيوت المتضرّرة جزئياً، وفق ما يؤكّد لـ«الأخبار» المهندس سمير أحمد من لجنة مدينة جبلة، قائلاً: «الاستجابة من قِبَل الناس ضعيفة، وهناك صعوبة في تقبُّلهم قرار الإخلاء سواء لتنفيذ الهدم أو إعادة التقييم، وقد نضطرّ للجوء إلى مدير المنطقة لمساعدتنا في تنفيذ هذا الجانب»، مضيفاً أن «خوف الناس وحالتهم النفسية الصعبة أدّيا إلى تشكيل ضغط كبير على اللجان، خاصة بسبب التهافت غير المنظَّم الذي يؤدي إلى الكشف على أبنية تمّ الكشف عليها سابقاً من قِبل مهندسين آخرين».