برشلونة | في سياقٍ دقيقٍ ومتراكب قررت رئيسة بلدية برشلونة السيدة آدا كولاو، اعتماد صيغةٍ خاصةٍ لمقاطعة دولة الأبارتهايد الإسرائيلي في خطوةٍ بَلَغَت ردودُ الفعل إِثْرَها أيَّما مبلغ.«قررتُ أن أعلق مؤقتاً علاقات [بلدية برشلونة] بدولة إسرائيل ومؤسساتها الرسمية -ويشمل ذلك اتفاق التوأمة مع بلدية تل أبيب- إلى أن تضع السلطات الإسرائيلية حداً للانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان المُقتَرَفَةُ في حق السكان الفلسطينيين، وتنفّذَ بشكلٍ كاملٍ الالتزامات التي يفرضها عليها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة».
«شكراً برشلونة»، ملصق باللغة الكتالونية انتشر بعد قرار البلدية تعليق التوأمة مع بلدية تل أبيب

كان ما سبق مقتطفاً من الرسالة التي أرسلتها آدا كولاو رئيسة بلدية برشلونة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وقد أكدت فيها، وفي المؤتمر الصحافي الذي عقدته في الثامن من الشهر الجاري، أن المدينة وبلديتها تعيان تماماً الفرق بين الدولة الإسرائيلية التي ينطبق عليها تعريف الأبارتهايد، واليهود كأشخاصٍ مرحبٍ بهم مثل غيرهم في تلك المدينة العوالمية التي يربو عدد ساكنيها عن المليون و600 ألف نسمة.
ومع ذلك، طالعت الدولة الصهيونية والمنظمات التابعة لها الجميع بردود فعلٍ مفاجئةٍ في تكراريتها، وعدم ملاءمتها للموقف، بل وفي وصول بعضها إلى الافتراء وقلة الأدب بأتم معنى الكلمة. كان الرد الأول من طرف أهم منظمة للوبي الصهيوني في إسبانيا «منظمة العمل والإعلام بشأن الشرق الأوسط» (Acom) التي وصفت القرار بـ«تعهيرٍ للمؤسسات الرسمية وجعلها حاضنةً لكره اليهود، وتحويل بلدية برشلونة لوكرٍ طائفي معاد للسامية». تلا ذلك بأقل من ساعتين ردٌ من الناطق باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية ليئور خياط، وصف فيه القرار بأنه «لا يمثل غالبية السكان، ومعادٍ للسامية، ولمصالح سكان برشلونة التي تجمعها بإسرائيل قيمٌ مشتركة».
ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف أغلب المعلقين في القنوات التلفزيونية والإذاعية الكاتالونية عن مهاجمة القرار، والترويج للرواية الصهيونية. عن ذلك يقول الصحافي والكاتب والمستعرب الكاتالوني مارك ألمودوفار: «لا غرابة في ذلك، إذ ثمة لوبي صهيوني قوي ومتنفذ في الأوساط السياسية والإعلامية. يمكن القول إن في كاتالونيا نخبةً متصهينةً تؤثر في أوساط المال والإعلام، أما الشارع فغالبيته متعاطفةٌ مع القضية الفلسطينية وتعلم -بشكل أو بآخر- أن هناك ظلماً تمارسه إسرائيل على الشعب الفلسطيني».

فشل مسار «المقاطعة» يحتّم مسار المقاطعة
أُبرِم عام 1998 اتفاق توأمةٍ ثلاثيٍ برعاية بلدية برشلونة يشمل غزة وتل أبيب. لكن الاتفاق «لم يخدم إلا تل أبيب فقط، فبلديتها ما برحت تروج لنفسها بأنها مثل برشلونة؛ مدينةٌ منفتحةٌ ومتسامحةٌ ومركزٌ للتقانة الحديثة»، بحسب ما صرح به صلاح الجمل، مؤسس جمعية «الجالية الفلسطينية في كاتالونيا». بعد أن أضحى جلياً فشل اتفاق أوسلو، الذي لم يمنح الشعب الفلسطيني أكثر من مقر «المقاطعة» ليستعرض فيه رئيس السلطة حرس شرفه، صار لزاماً إعادة النظر في المواقف كافة، كلٌ من موضعه. فمن داخل فلسطين صدر نداء قطاعاتٍ متعددةٍ من الشعب الفلسطيني بمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها ومعاقبتها في أواخر الانتفاضة الثانية، وفي برشلونة وُلدت فكرة قطع العلاقات مع النظام الاستعماري الصهيوني بُعيد العدوان الإسرائيلي الدامي على قطاع غزة مطلع عام 2009.
وفي عام 2015 تشكل تحالفٌ باسم «وقف التواطؤ مع إسرائيل» (Prou Complicitat amb Israel) يضم 16 منظمةً مجتمعيةً وغير حكوميةٍ وهيئات تضامنٍ كتالونية تتبنى نداء المقاطعة الفلسطيني، أبرزها «جمعية التضامن الأممي الأنوثي (النسوي)» (Suds)، و«لجنة المقاطعة» (BDS) في كاتالونيا، و«الجمعية الكاتالونية لليهود والفلسطينيين» (Junts) وجمعية الجالية الفلسطينية في كاتالونيا، و«المعهد الدولي للعمل اللاعنفي» (Novact). وقد عمل التحالف بدأبٍ -ولا يزال- لإقناع السلطات في إقليم كاتالونيا والمجلس البلدي لمدينة برشلونة على تبني نداء مقاطعة دولة الاستعمار الإسرائيلي. ومع وصول حركة «Catalunya en Comú» اليسارية المعروفة باسم «كومونس» إلى رئاسة البلدية، أصبحت هناك آذانٌ صاغية لنداء المقاطعة داخل بلدية برشلونة.
شهد الربع الأخير من العام الماضي تصاعداً للفعل المدني الرامي لمقاطعة إسرائيل في برشلونة


في معرض حديثه إلى «الأخبار» عن الفعل وردود الفعل، قال لوران كوهن مدينا، اليهودي المعادي للصهيونية والرئيس المشارك لجمعية اليهود والفلسطينيين في كاتالونيا: «الأمر نابعٌ من قراءتنا للمشهد الفلسطيني، فنحن لسنا أمام صراع، بل أمام استعمارٍ استيطاني. لذلك نحن مع الفلسطينيين في نضالهم ضد دولة إسرائيل التي لا تمثلنا كيهود، ويهمنا أن نكيل الضربات للنظام الصهيوني. صحيحٌ أن الخطوة رمزية، وأنهم سيستمرون في أعمالهم القذرة، لكن توعية الرأي العام مهمةٌ وتؤلمهم. أمّا الأقاويل، بأن تل أبيب مدينةٌ متحررةٌ وصديقةٌ لمُنْجَمَعِ الميم عين، وأن رئيس بلديتها وصف الحكومة الإسرائيلية الحالية بـ‘الفاشية‘ وأنه لا يجب معاقبة تل أبيب؛ فهي واهية. ها هو رئيس بلدية تل أبيب طيار حربي سابق، وتل أبيب نفسها أقيمت على أراضٍ مطهرةٍ عرقياً بعد تدمير قرى فلسطينية وأجزاء من مدينة يافا وطرد أهلها. لا تربطنا بإسرائيل وتل أبيب أي قيمة».

حركةٌ متسارعةٌ قبل أشهر من الانتخابات
شهد الربع الأخير من العام الماضي تصاعداً للفعل المدني الرامي لمقاطعة إسرائيل في برشلونة، حيث اجتمع ممثلو وممثلات منظمات تحالف «وقف التواطؤ مع إسرائيل» مع رئيسة البلدية آدا كولاو، ثم تحدث أولئك في جلسةٍ عامةٍ للمجلس البلدي طرحوا فيها حججهم ومطالبهم التي لم تدعمها سوى حركة «كومونس» التي تترأسها كولاو.
بعد ذلك، في شهر تشرين الثاني الماضي، فتحت البلدية، عبر موقعها الإلكتروني، الباب لجمع التواقيع بغرض الحصول على موافقةٍ شعبيةٍ على وقف العلاقات مع تل أبيب وإسرائيل. وتحدد الحد الأدنى للتواقيع بـ 3500 توقيع، وبسقفٍ زمنيٍ لا يتجاوز الخمسة أسابيع فقط. يشرح لوران كوهن مدينا كيف تحوّل طلب جمع التواقيع إلى حملةٍ شعبية ضخمة باسم «برشلونة والأبرتهايد، لا» (Barcelona amb l'Apartheid NO): «تلقفنا في تحالف وقف التواطؤ مع إسرائيل طلبَ جمع التواقيع وأنزلناه إلى الشارع، ووسعنا نطاقه، وتمكنا من إقناع 112 جهةً مختلفةً بالانضمام إلينا، منها أكبر نقابتي عمال في البلاد، واتحادية لجان الأحياء في المدينة واتحاد منظمات التنمية والتعاون الدولي».
هكذا تم جمع أكثر من 4 آلاف توقيعٍ في زمنٍ قياسي، وكان بالإمكان جمع المزيد من التواقيع لو أتيح مزيدٌ من الوقت. وحيث أنه من صلاحية رئيسة البلدية أن تتخذ بمفردها قراراً بإبرام اتفاق توأمةٍ أو فضه من دون الرجوع إلى المجلس، فإن آدا كولاو اتخذت القرار، وأعلنت عنه في مؤتمر صحافي بحضور ممثل جمعية الجالية الفلسطينية في كاتالونيا، وممثل الجمعية الكتالونية لليهود والفلسطينيين، والناطقة باسم حملة «برشلونة والأبارتهايد. لا» وممثلة حركة المقاطعة «BDS» أليس سامسون التي قالت: «إن الإنجاز هو ثمرة جهدٍ قام به قطاعٌ عريضٌ، يمثل المُنْجَمَعِ المدني المنظم في كاتالونيا الذي يناضل ضد العنصرية وضد الاستعمار ومن أجل العدالة الاجتماعية والحقوق الجنسية والجنسانية. جهدٌ من نساء ورجال في كاتالونيا وإسبانيا والعالم، جهدٌ من فلسطينيين ويهود وإسرائيليين معادين للصهيونية. إن استمرار نظام الأبارتهايد الإسرائيلي في جرائمه سببه التواطؤ الدولي وتطبيع العلاقات معه، لذلك فإن وقف اتفاق التوأمة بين برشلونة وتل أبيب خطوةٌ في اتجاه محاسبة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي».

لماذا الآن، بعد ثماني سنوات في رئاسة بلدية برشلونة؟
أجاب «الأخبار» مارك ألمودوفار، قائلاً: «للأمر بعدان؛ أحدهما رمزي والآخر انتخابي، فقد جاء القرار على أعتاب الانتخابات البلدية التي ستجرى في شهر أيار، وبحسب استطلاعات الرأي ثمة تقاربٌ كبيرٌ بين القوى المشاركة، بالتالي من المحتمل ألَّا تحصل آدا كولاو على عهدةٍ جديدة. لذلك فإنها تريد قبل مغادرة المنصب أن تغلق بعض الملفات السياسية، وأن تترك بصمةً رمزية، كما أنها تريد إعادة تحشيد ناخبيها، لا سيما من مؤيدي اليسار الفاقدي الثقة بالمؤسسات الرسمية. وبما أنه لا يوجد دعمٌ لموقف كولاو من العلاقات مع تل أبيب، فمن الواضح أنه لم يكن بوسعها اتخاذ هذا القرار في وقت آخر. يحتل الملف الفلسطيني أهميةً كبرى لدى حزب كولاو، لكنه ليس الملف الوحيد إذ ثمة ملفاتٌ أخرى مهمةٌ وجوهريةٌ في برنامجها الحزبي».
ثمة محاولاتٌ من طرف القوى اليمينية، لا سيما من طرف الحزب الاشتراكي الديموقراطي فرع كاتالونيا -وهو الحزب الذي يرأس الائتلاف الحاكم في إسبانيا ويصف نفسه بيسار الوسط على رغم أن سياساته ليست كذلك- لإيجاد ثغراتٍ قانونيةٍ سعياً لإلغاء القرار، لذلك ستُعقد جلسة عامة للمجلس البلدي في 24 من الشهر الجاري، سيحضرها ويتحدث فيها ممثلو حملة «برشلونة والأبرتهايد، لا» لكن الموقف محسوم «لأن كولاو تصرفت بموجب صلاحياتها القانونية» كما أكد ألمودوفار.
جديرٌ بالذكر أن الأحزاب اليمينية في كاتالونيا داعمةٌ بالمطلق لإسرائيل، سواءٌ أكانت أحزاباً تطالب باستقلال الإقليم عن إسبانيا أم منافحةً عن البقاء ضمنها. والأمر نفسه ينسحب على الأحزاب اليمينية في إسبانيا ككل. وقد أعلنت بلدية مدريد -التي يحكمها ويحكم إقليمها الحزب الشعبي اليميني- عن رغبتها في عقد توأمةٍ مع تل أبيب، كما توجهت رئيسة إقليم مدريد إيسابيل أيوسو -المعروفة بشعبويتها وتأييدها المطلق لإسرائيل حتى أثناء عملياتها العسكرية الكبرى- إلى إسرائيل والتقت بكبار الساسة هناك في زيارةٍ لا تخفى مآربها على أحد.
عن ذلك يقول مارك ألمودوفار: «تلك تحركاتٌ طفولية، فاليمين يريد أن يناكف ويتخذ خطواتٍ معاكسةٍ لإثبات وجوده وتسخيف اليسار». وعلى الرغم من محاولة الإعلام الإسرائيلي التباهي بما يفعله اليمين في مدريد، إلا أن الحملة الشعواء في الإعلام في إسبانيا ضد ذلك القرار التاريخي دليلٌ على أن إسرائيل تتألم؛ فهي بكلمات المؤرخ إيلان بابيه «ترى نفسها في المرآة الأوروبية». في غضون ذلك ثمة أنباءٌ غير مؤكدةٍ عن فعلٍ مشابه تشهده الآن مدينة تولوز الفرنسية.