شيء من فداحة الواقعما من قضيّة كالقضيّة الفلسطينيّة، في وطننا العربيّ، يمكنها أن تعلّم الإنسان وتكشف له العالم الذي نحيا فيه. الواقع أنّه ما من حكومة في هذا العالم الأوروبيّ (ما عدا إيرلندا المحتلّ شمالها) والشمال أميركيّ تعمل، أو تريد فعلاً، للفلسطينيّين أن يتحرّروا. فتلك البلاد لا تزال استعماريّة الفكر والنهج والتصرّف، ولا تزال تحاول استغلال مقدّرات بلاد الآخرين بالحرب المباشرة أو بأدوات الكلام الفوقيّ عن حقوق الإنسان كوسيلة جديدة للتدخّل الاستعماريّ، شبيهة بتلك القديمة القائمة على أساطير «التفوّق» الحضاريّ والثقافيّ. ما يثير العجب ليس ما أقوله، بل مدى استفحال الاستعمار الداخليّ الفكريّ الذي يخضع له مثقّفونا الذين لا يرون هذا الواقع، ولا أقصد الذين لا يريدون أن يروا للإبقاء على سيل دولارات شيوخ التطبيع. فالواقع أنّ جشع الشركات وحكومات بلادها، ستسحق سحقاً أيّ بلد أو شعب غير قادر على إعانة نفسه، والاجتماع على مشروع تحرّر أو دفاع عن بلاده.
كريس هاتش (الولايات المتحدة)

«المجتمع الدولي» الأوروبيّ والشمال أميركيّ، أي حكوماته، لا يأبه للشأن الفلسطينيّ ولا للشأن العربيّ، يجب النظر إلى حكومات أوروبا وشمال أميركا على أنّها أساساً حكومات استغلاليّة، لا تأبه إن عشنا أو متنا جميعاً، فهي لا تعطي قيمة لحياة الإنسان خارج أوطانها، وتهتمّ لمصالحها حتّى ولو كانت لا تتحقّق إلّا فوق تلال من الجثث، وهي بالفعل لا تتحقّق إلّا فوق الجثث، كما يدلّ دعمها المطلق لقمع الفلسطينيّين، وتدلّ الحروب على سكّان أفغانستان، والعراق، وليبيا، وسوريا في العقود الأخيرة. لكنّ الحكومات غير المواطنين، الأوروبيّون والكنديّون والأميركيّون غير العنصريّين هم غير الحكومات الأوروبيّة والكنديّة والأميركيّة، الناس في تلك الدول يتعاطفون معنا إن رأوا أوجاعنا، كما يتعاطف معهم غير العنصريّين منّا إن رأوا أوجاعهم، يكرهون القتل كما يكره كلّ إنسان سويّ القتل، يدعمون الفلسطينيّين عندما يرون الفظائع التي تُرتكب بحقّهم، يتظاهرون بالملايين ضدّ حكوماتهم وقراراتها بخوض حرب وحشيّة (على العراق مثلاً). أمّا الحكومات فغير شعوبها، فهي تعمل أجيرة لمصالح شركات بلادها، والازدياد المطّرد لأرباحها، ولو أنّ ذلك يقتضي القتل ودوس حقوق الإنسان وتنصيب الديكتاتوريّين والوحوش على بلاد المستغلَّة.
ما لم يتّحد الفلسطينيّون في الداخل لن يجدوا الحرّية؛ يمكن للخارج أن يدعم، لكنّ الداخل الفلسطينيّ وحده هو القادر على هزيمة الاحتلال، وفرض خشية الدول. كلّ دعم خارجيّ مشروع هو ضروريّ، وجيّد، ومفيد، ويسهم في حركة التحرّر. لكنّ التحرّر لا يمكن أن يحصّل من دون عناصر قوّة. ما من حركة تحرّر حول العالم خيضت بالمفاوضات، وحتّى في الهند، لم تكن حركة التحرّر حركة مفاوضات ومناشدة لحكومات «مجتمع دولي»، بل كان النضال اللاعنفيّ وسيلة قوّة تضرب المصالح الاقتصاديّة البريطانيّة، وتنزع عن وحشيّتها قناع «الحضارة».

فلسطين
ما من إنسان غير عنصريّ يتمكّن من رؤية جرائم الاحتلال في فلسطين إلّا ويقف موقف التعاضد مع الفلسطينيّين. قد لا يعرف ما هو الحلّ، قد يختلف مع آخرين في تقدير الحلول، ولكن لا يمكنه -إن لم يكن عنصريّاً- أن يقبل هذه الجرائم اليوميّة. هذه هي الأرضيّة الأخلاقيّة الإنسانيّة التي تستند إليها كلّ حركة تحرّر، لأنّها تعرف أنّها تحرّض المستعمَرين وعامّة البشر الأسوياء ضدّ الظلم. معرفة هذه الأرضيّة نفسها هي التي تدفع بالاحتلال الاستعماريّ العنصريّ الصهيونيّ لبذل الجهود الهائلة لإخفاء واقع الاحتلال والتمييز العنصريّ عن الإعلام الغربيّ والعربيّ، ولمحاولة منع أيّ انتقاد لإسرائيل تحت مظلّة معاداة الساميّة. ومعاداة الساميّة وإن كانت صحيحة وموجودة لدى الأوروبيّين والشمال أميركيّين أساساً، فقد جرى توسيعها أخيراً من قبل الصهاينة لتشمل انتقاد إسرائيل، وهو ما تلقّفته بشغف حكومات العار الأوروبيّة والشمال أميركيّة، بينما يلاقي رفضاً قاطعاً من النقابات (جميع نقابات الأساتذة الجامعيّين في كندا، مثلاً) والمنظّمات المختلفة (اتّحادات طلّاب، مثلاً) ومنها منظّمات يهوديّة.
بينما تختلف الوسائل حكماً، بين بلد وبلد، وبين الداخل الفلسطينيّ والخارج، فالمهمّ أن نلتقي على الهدف باختلاف الوسائل والعقائد


المهم أن نعي مركزيّة هدف التحرّر في العمل الجماعيّ حول القضيّة الفلسطينيّة. ولهذا فبينما تختلف الوسائل حكماً، بين بلد وبلد، وبين الداخل الفلسطينيّ والخارج، فالمهمّ أن نلتقي على الهدف باختلاف الوسائل والعقائد. ولا شكّ أنّ أبرز نقاط الضعف في حركة التحرّر الفلسطينيّة، هي أنّها لم تعد تشكّل حركة تحرّر واحدة، وأنّ اتّفاق أوسلو جعل من السلطة الفلسطينيّة سلطة مأجورة من الاحتلال للعمل من أجل استتباب أمنه. كلّ عذر لعدم التعاون والوحدة هو خيانة للشعب الفلسطينيّ.

المقاطعة وتجربتها
المقاطعة خارج فلسطين وداخلها عمل أساس، نضال فعليّ، بخاصّة في العالم العربيّ الذي تهرول حكوماته اليوم نحو التعاون مع الجلّاد باسم الضحيّة!
إنّ المقاطعة ونقل حقيقة الواقع الفلسطينيّ وجرائم دولة إسرائيل، يشكّلان نضالاً حقيقيّاً. فأنت أحياناً تخاطر بوظيفتك حين تكتب أو تحاضر أو تناصر حرّية الفلسطينيّين وتنتقد إسرائيل، في بلدان الحكومات المعادية لنا، في أوروبا وشمال أميركا؛ الدعاوى لطرد أساتذة مدارس وجامعات من عملهم، ولمعاقبة طلّاب، تتتابع، ومواجهتها الناجحة تتتابع أيضاً. لقد توسّعت حركة المقاطعة التي أطلقها فلسطينيّو الداخل عبر السنوات، وما الحرب القانونية الإعلاميّة الشعواء التي تُشنّ على حركة المقاطعة، إلّا الدليل القاطع على فاعليّتها، لأنها بالضبط تكشف الوجه العاري لوحشيّة المحتلّ.
حركة المقاطعة حركةٌ متناسبة مع ما يمكن أن يقوم به أناس يحيون في بلاد بعيدة أو قريبة، يمكنهم أن يدعموا حركة تحرّر وطنيّة، بتوسيع الوعي الشعبي والانخراط في ضرب مصالح الاحتلال، بالضغط على حكوماتهم لدعم التحرّر أو الامتناع عن دعم الاحتلال. النجاح مختلف بحسب البلدان لكنّه يتقدّم بالفعل. المقاطعة والتظاهر هو فعل حقيقيّ، لا يحرّر وحده، ولكنّه يؤمّن أسباب الدعم والبيئة العربيّة والعالميّة الحاضنة التي تحتاجها كلّ حركة تحرّر.

لاهوت التحرير الفلسطينيّ
في الداخل الفلسطينيّ، ترتفع أصوات عالية للاهوتيّين فلسطينيّين (القسّ الدكتور متري الراهب، القسّ الدكتور نعيم عتيق) يخاطبون مواطنيهم باللغة العربيّة، ويخاطبون المسيحيّين بلغاتهم الأجنبيّة في أوروبا والأميركيّتين، ويدافعون، من منظور مسيحيّ، عن خطّ التحرّر من الاحتلال، ويرسخون أسس لاهوت تحرّر مسيحيّ فلسطينيّ، يفضح العنصريّة الصهيونيّة ويدعو لمناهضة الاحتلال، ويدحض مواقف المسيحيّين الصهاينة. أمّا الكنائس الفلسطينيّة، فقد تجرّأت مجتمعةً في «وقفة حقّ» (كايروس-فلسطين)، على الخروج من اللغة الخشبيّة التقليديّة حول السلام، لتدعو إلى مقاومة الاحتلال مرتكزة على تعاليم المسيح، وسمّت صراحة الاحتلال بالتمييز العنصريّ، كما أنّها عبّرت بصراحة ووضوح عن مشروعيّة الصراع المسلّح لرفع الاحتلال والتمييز والتنكيل، على رغم انتهاجها الدعوة للصراع غير المسلّح تناسباً مع الموقف الكنسيّ التقليديّ.

نحو التحرّر
الصراع في فلسطين ليس معقّداً كما يحلو للناس في بلاد الغرب أن يقولوا (أو كما يبدو لهم فعلاً إن كانوا يجهلون معطيات الواقع). إنّ استتباب العدالة والسلام في أرض فلسطين أمر بسيط يقوم على أن ينتهي الاحتلال ومشروع الاستيطان الصهيونيّ، ويحيا الناس في مساواة وعدالة في قانون يحترم حقوق المواطنين، مع ما يستتبع ذلك من إحقاق جميع حقوق الشعب الفلسطينيّ، فتكون دولة تعامل المواطنة والمواطن بمساواة أمام القانون من دون أيّ نوع من أنواع التمييز. لكن، للأسف، يبدو أنّه لا يمكن الوصول إلى هذا الحلّ، على وضوحه وبساطته، إلّا عبر سيل من الدماء، سيل كان من الممكن تجنّبه، لولا أنّ الجشع والعنصريّة استحوذتا على قلوب وعقول ممثّلي النظام الرأسماليّ الأميركيّ-الأوروبيّ العنصريّ، الذي يسعى لتحقيق مصالحه الاقتصاديّة على جثثنا، والذي يدعم من دون هوادة النظام الصهيونيّ العنصريّ المدجّج بالسلاح، والذي يسعى هو الآخر لتحقيق مصالح اقتصاديّة بمتابعة سرقة الأرض من أهلها.
للأسف، على سكّان بلادنا أن يدفعوا ثمناً باهظاً للتحرّر، كان يمكن الاستغناء عنه لولا الجشع الذي يتجسّد أنظمة عنصريّة ورأسماليّة. لن نتحرّر إلّا حين تكون كلفة الأرباح التي تجنيها هذه الأنظمة من استغلالنا وقتلنا، أعلى بكثير من كلفة إنهاء نظام الفصل العنصريّ. قد يكون لهذه الكلفة أكثر من وجه، فقد يكون لها وجه اقتصاديّ وآخر سياسيّ وآخر عسكريّ. من هنا، يتكامل العمل المقاوم، في جميع أشكاله المقبولة لدى جميع الشعوب، والمعترف به كحقّ عابر للزمن وللحضارات. تلك الأشكال التي يريد سلبنا إياها جميعاً، أولئك الذين يريدون مراكمة الثروات فوق جثثنا، داخل وخارج فلسطين.
إنّ «الوحش الصاعد من الهاوية» لن يُطرح في «بحيرة النار» بلا مقاومة، المهمّ أن تتنبّه كلّ مقاومة، فلا تتبنّى أساليب «الوحش»، وأن تحافظ على رؤيتها الأولى فلا يظلّلها أيّ حقد لجماعة، فالتركيز على مقاومة الشرّ لا على هويّة الشرّير -ولا حتّى على شخصه إن استطاع الإنسان- يفيدنا ويهمّنا من أجل مستقبلنا جميعاً كبشر على هذه الأرض.