الغرب «والرأي العام»: تغييرات لافتة نتيجة جهود جبارةلم يكن ممكناً للصهاينة، من هرتزل إلى بن غوريون إلى نتنياهو، أن يحققوا مشروعهم لإقامة «دولة يهودية» على أرض فلسطين، لولا دعم دول الغرب لهم. ومع أن هذا الدعم الرسمي ما زال مستمرّاً، من اللافت أنّ تأييد الشعوب للحركة الصهيونية لم يعد كما كان. وهذا ما دفع «معهد دراسات الأمن القومي» الإسرائيلي أن يعلن في كانون الثاني 2023 أن التغيير في الرأي العام الغربي «يشكّل تهديداً استراتيجيّاً لإسرائيل».
فقد وجدت استطلاعات الرأي لمركز «برتلمان-ستيفستونغ» و«لرابطة مكافحة التشهير» الصهيونية، أن 33% من الألمان و40% من الأميركيين يرون أن معاملة إسرائيل للفلسطينيين مشابهة لمعاملة النازيين لليهود، في حين وجد استطلاع «لمعهد الناخبين اليهود» عام 2021 أن 25% من الأميركيين اليهود يعتقدون أن إسرائيل دولة فصل عنصري «أبارتهايد»، وأن 22% منهم يعتقدون أنها تمارس التطهير العرقي بحق الفلسطينيين. أمّا بين اليهود الأصغر سنّاً، فقد وجد الاستطلاع أن 20% ممن لا يتعدون الـ40 سنة من العمر يعتقدون أن لا حق لإسرائيل في الوجود من الأساس. وهذا ينفي الزعم الصهيوني، الذي يردّده للأسف بعض العرب، أن يهود العالم يشكلون قوميّة واحدة متجانسة وموحّدة حول الهوية الإسرائيلية.
وتعود هذه التغييرات إلى ازدياد الوعي والمعرفة حول طبيعة الكيان الصهيوني الاستعمارية وسياساته وممارساته العنصرية والقمعية في فلسطين والمنطقة، بفضل الجهود المبذولة من قبل سياسيين ونشطاء (عرب ويهود وغير ذلك)، وأحزاب سياسية ومنظمات غير حكومية ومواقع وحملات توعية ومجموعات ناشطة وصحافة إلكترونية وحركات مقاطعة.

هل يمكن استثمار هذه التغييرات سياسياً؟
تشكّل هذه التغييرات فرصاً يجب استثمارها في سبيل دعم نضال الشعب الفلسطيني التحرّري. هذا ما حصل فعلاً في محاولة الصهاينة لتطهير حيّ الشيخ جرّاح عرقيّاً. ففيما شكّلت المقاومة المسلّحة رأس حربة المواجهة، هبّ أهل الشيخ جرّاح ومناصرو القضية الفلسطينية في الغرب، لتقديم نوع آخر من المقاومة. وقد أسهم تضافُر جهودهم لنشر الوعي في مجتمعاتهم من خلال السوشال ميديا، والتظاهرات الحاشدة والضغوط على سياسييهم في خلق جوّ عام مؤيد لحقوق الفلسطينيين، ممّا مهّد الطريق، ليعلن عدد من الصحافيين والأكاديميين والخبراء السياسيين والقانونيين والفنانين، رفضهم لسياسة وممارسة إسرائيل الفصل العنصري بحق الفلسطينيين. وقد تُرجمت هذه الجهود عملياً في الولايات المتحدة، حيث علتْ أصوات عدد من السياسيين في الحزب الديموقراطي، وهدّدت بإحداث شرخ فيه، حتى اضطرّ بايدن أن يضغط على إسرائيل علناً، للكف عن عدوانها. وهذا يشكّل نموذجاً عن نوع النشاط الذي ينبغي أن ينظَّم، لردف جهود المقاومة الميدانية والشعبية في فلسطين، بغية قلب موازين القوى في وجه العدو.
في المقابل، لا يجب اعتبار الاستفادة من هذه التغييرات المجتمعية تحصيل حاصل. ففي غياب مشروع سياسي لإزالة الاستعمار الاستيطاني العنصري في فلسطين، قد تذهب أية جهود أو تضحيات سُدى في حال تمّ استثمارها ضمن طرح استسلامي، مثل طرح الدولتين الذي يعترف بشرعية الدولة اليهودية، أو طروحات أخرى سقفها تحسين شروط الاستعمار بدل العمل لإزالته. على سبيل المثال، قد يوحي التركيز على بطش العدو وإدانة سياساته العنصرية خارج إطار مشروع سياسي لتفكيك الكيان الصهيوني، أن المشكلة ليست في وجود دولة يهودية بل في أفعالها. فطروحات كهذه تطبّع مع كيان العدو، أي «تعتبر وجوده طبيعيّاً»، وتهدّد بالتالي بهدر كل الجهود والتضحيات التي قُدّمت على مدى عقود.

تلافي هدر الفرص بتبني النقيض للمشروع الصهيوني
يبدأ تلافي مخاطر هدر الجهود والفرص، بتشخيص دقيق لجوهر الصراع، فهو ليس خلافاً طائفياً بين المسلمين أو العرب واليهود، ولا نزاعاً عقارياً يقتصر على سرقة بيوت وأراض، ولا عراكاً على بعض الكيلومترات المربّعة يمكن فضّه من خلال التفاوض، ولا مسألة مشاعر تتلاشى مع مرور الزمن، ولا حتى مجرّد قضية إنسانية لا تستدعي سوى التعاطف مع من ظُلموا. فبزعمه (المشروع الصهيوني) أن يهود العالم يشكّلون قوميّةً واحدة تتمتّع بحقوق جماعيّة، وبتقديمه نموذجاً لدولة خاصة بطائفة، لا يشكّل المشروع الصهيوني خطراً على الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً على تماسك مجتمعات المنطقة، المُصابة أصلاً بآفة التفكّك الطائفي والانقسامات الهويّاتية. فإذا قبلنا، اقتناعاً أم رضوخاً، بزعمهم الطائفي، وبشرعية وجود دولة خاصة بطائفة، لا بدّ من الاعتراف أيضاً بشرعية أي مساعي طائفية وانعزالية أخرى في المنطقة: من دولة للموارنة في لبنان، لدولة للدروز في الجبل، ودولة للعلويين على الساحل السوري، وتقسيم العراق إلى ثلاث دول شيعية وسنية وكردية، وغيرها.
لذا، لا يمكن مواجهة المشروع الصهيوني إلا على أساس مشروع يصيبه في أساس زعمه، أي مشروع لا يرى الدول آلات حرب خاصة بطوائف في وجه طوائف أخرى، بل أدوات لإدارة المجتمع على أساس مصالح مواطنيه الحقيقية، لا على أساس متخيّلات اجتماعية عدوانية. ولطالما أدركت وجوه عربية بارزة كثر هذا الواقع، ومنهم القائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش الذي قال في كتاب «الثوار لا يموتون أبداً» الذي خرج كحوار طويل مع الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو، إن «قيام دولة ديموقراطية وعلمانية هو الحل الوحيد»، وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الذي اعتبر في مقابلته مع الصحافي جوليان أسانج أن «الحل الوحيد هو قيام دولة واحدة على أرض فلسطين يعيش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون بسلام في دولة ديموقراطية»، وغيرهما. وهذا يتوافق مع تمييز الميثاق الوطني الفلسطيني بين اليهود والغزاة، واعتباره اليهود غير الغزاة مواطنين فلسطينيين.
برفضه المنطق الصهيوني الطائفي-الاستعماري القائم على تسييس الهوية، وتصنيف الناس على أساس خلفياتهم العرقية أو الدينية، لا واقعهم المادّي-المجتمعي، يصيب طرح «قيام دولة ديموقراطية واحدة على كامل تراب فلسطين» المشروع الصهيوني في أساس زعمه، ويشكّل النقيض الجوهري له، ويحول بالتالي دون هدر الفرص والجهود في الطروحات المطبّعة المذكورة آنفاً. لذا، لا بدّ لطرح الدولة الديموقراطية الواحدة أن يرافق، بل أن يقود، نضالنا التحرّري.

مبادرة الدولة الديموقراطية الواحدة
لقد تشكّلت عدّة مجموعات للعمل من أجل إحياء، أو بالأحرى إعادة إحياء، طرح الدولة الديموقراطية الواحدة. فيعمل العديد من الفلسطينيين والحلفاء معاً منذ عدة سنوات لتطوير رؤية استراتيجية لهذه الدولة بعد التحرير، وإجراء حوار حرّ متمدّن بشأنها، وتكريس مبادئها في عمل الأفراد والمجتمع المدني ومجموعات التضامن. حتى الآن، صدرت عدة مواثيق حول رؤية الدولة الديموقراطية الواحدة في فلسطين كقاسم مشترك بينها. نذكر منها «ميثاق ميونيخ للدولة الديموقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية» لعام 2012 الرافض لتقسيم فلسطين، والداعي إلى قيام دولة ديموقراطية واحدة لمواطنيها من النهر إلى البحر، وإلى التمسّك بالثوابت الوطنية الفلسطينية، والمؤكّد على حقوق العودة، واستعادة الممتلكات الخاصّة والعامّة والتعويض.
وقد لوحظ أخيراً أن هناك زيادة في الحديث والنقاش والكتابة والأصوات التي تدعو إلى تبني هذه الرؤية، والسعي إلى تحقيقها، بصفتها الحل الوحيد لإفشال المشروع الصهيوني وإزالة أداته (أي الكيان الصهيوني)، واستعادة الحقوق وتحقيق العدل والسلام الحقيقيين في فلسطين والمنطقة. ومنها «مبادرة الدولة الديموقراطية الواحدة» التي أطلقها أخيراً ناشطون فلسطينيون وحلفاء لهم. كما تذكر المبادرة على موقعها www.odsi.co: أن «الخطوة الأولى لأي مسعى ثوري هي بلورة وتقديم سردية سليمة ومتينة، تدحض بروباغندا الأعداء وتقنع المتردّدين وتمكّن المناضلين والحلفاء… من هنا الحاجة لفرض، أو بالأحرى إعادة فرض، سردية تصيب المشروع الصهيوني في أساس زعمه الطائفي، أي سردية ترفض وجود دولة خاصة بطائفة من الأساس… تهدف المبادرة إلى حشد طاقات أفراد ومجموعات وأحزاب في فلسطين وخارجها حول هذا المشروع. لذا نعمل على بناء جسور تواصل مع الأفراد والجماعات الذين يؤيدون حل الدولة الديموقراطية الواحدة، الذين يدركون خطر الصهيونية لكنهم غير مقتنعين بحل الدولة الديموقراطية الواحدة، وغيرهم من المهتمّين والمستعدّين للإصغاء».
يأمل الناشطون في مبادرة الدولة الديموقراطية الواحدة، وفي مجموعات «الدولة الديموقراطية» الأخرى أن يؤول عملهم إلى تشكيل جبهة سياسية ذات رؤية استراتيجية تحررية واضحة وإلى توحيد الجهود النضالية حولها حتى تحرير فلسطين، كل فلسطين.

* سمير عبد ربه، دكتور في القانون الدولي ومؤلّف لعدة كتب ومقالات حول فلسطين منها ODS: The Case for One Democratic State in Historic Palestine و«إعلان ميونخ للدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية»

**ألان علم الدين، ناشط في «مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة» وعضو في حزب «مواطنون ومواطنات في دولة»