حلب | كحال أغلب الحلبيّين، لم يقتصر الضرر اللاحق بأطبّاء حلب من جرّاء الزلزال المدمّر، على خسارة البيوت أو تصدُّعها، بل امتدّ إلى فقدان بعضهم عوائلهم، ما سيكون من شأنه تعميق حالة الهشاشة في القطاع الصحّي في العاصمة الاقتصادية المنكوبة، التي تعاني أصلاً استنزافاً في الكوادر الطبّية بعد هجرة كثير من هؤلاء بسبب الحرب والواقع المعيشي الضاغط. ولعلّ تلك الهشاشة عبّر عنها بوضوح مدير «منظّمة الصحة العالمية»، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إثر زيارته حلب، حيث قال إنه لم يرَ أبداً في حياته دماراً كالذي رآه هناك، داعياً إلى جمْع التبرّعات لتمكين السوريين من إعادة بناء حياتهم، خاصّة بعد «عقد من الحرب تسبّب بخسائر لا يمكن تصوّرها»، وأتى على الكثير من المشافي والمراكز الصحّية.
مستشفيات منهَكة
يقول مدير «مشفى الرازي»، رزق الله مالو، لـ«الأخبار»، إنه «من غير المقبول سحْب مِبضع الجراح من يده وتكبيل يد المسعف، فكيف يمكن لطبيب أن يَدخل إلى غرفة عمليات من دون مِشرط؟»، في إشارة إلى ما ترَكه الحصار من آثار سلبية على المشافي السورية، المحرومة من التجهيزات الطبّية المتطوّرة، بينما يُسمح بتمرير القديمة غير النافعة أساساً لها. ويشير مالو إلى وجود نقص كبير في «الطبقي المحوري والتنظيرية وتخطيط السمع وخاصة عند الأطفال، وتنظير الحنجرة بعد العمليات وغيرها، كما أن هناك أجهزة تحتاج إلى قطعة صغيرة لإصلاحها، لكن بسبب عدم القدرة على ترميم هذه النواقص يصبح الجهاز خارج الخدمة مع أن سعره يتجاوز 3 مليارات ليرة». ولا يقتصر النقص على الأجهزة، بل يمتدّ إلى الأدوية أيضاً، التي يُغطّى قسم كبير منها محلّياً، فيما بعضها الآخر غير متاح، وتقوم الدولة بتأمينه لمُواطنيها بطرق صعبة ومكلفة.
ويتحدّث مالو عن صعوبات كثيرة تُواجه الطواقم الطبّية من جرّاء هذا الواقع؛ «فمثلاً، يُستعان بمنظومة الإسعاف لنقل المريض إلى مشفى آخر لإجراء صورة معيّنة له ثم العودة به إلى المشفى، ما يؤدي إلى استهلاك الكفاءات والأموال والوقت، وتزيد الطين بلّةً مشكلةُ نقص المحروقات وانقطاع الكهرباء». ويَلفت إلى أنه «لو لم يكن الحصار موجوداً، لكانت هذه العقبات منعدمة، ولاستطاعت المشافي تأمين احتياجاتها بسهولة»، مطالباً بـ«رفْع العقوبات في أسرع وقت لتمكين القطاع الصحّي من مواجهة مِثل هذه الكوارث وإنقاذ الضحايا، الذين كان عددهم سيكون أقلّ في حال عدم وجود عقوبات». وعلى رغم تلك الصعوبات، يشير مالو إلى أن «مشفى الرازي وغيره من مشافي حلب استطاعت بكوادرها المدرَّبة على الحوادث والمكتسَبة خبرتها من سنوات الحرب، مواجهة الكارثة، عبر تشكيل ثلاث فِرق عمل لتقديم الخدمات الطبّية اللازمة لضحايا الزلزال، من دون حاجة إلى وجود مرافق لناحية تأمين الدم والأمصال وغيرها».
لا يستثني الشحّ سيّارات الإسعاف؛ إذ «يوجد نقص كبير في السيّارات التي يَبلغ عددها 22»


أدوية ممنوعة
في الاتّجاه نفسه، يؤكد رئيس قسم العظمية في «مشفى الرازي»، نزار سليمان، لـ«الأخبار»، وجود «نقص شديد في الأجهزة الطبّية الحديثة ومستلزمات الإسعاف والإنعاش وأجهزة الرنين المغناطيسي والأَسرّة، إضافة إلى نقص الكوادر الطبّية من ممرّضين وأطبّاء تخدير وأخصائيين، وذلك مردّه إلى سنوات الحرب المرهِقة والحصار الاقتصادي». ويضيف سليمان أن هذا الواقع «أثّر على استجابة المشفى لكارثة الزلزال، الذي وقع في ساعة غير متوقّعة، وبالتالي لم تكن هناك خطّة طوارئ، فالعمل اقتصر بداية على المناوبين، الذين اتّصلوا فوراً بالأطبّاء، وهؤلاء بعضهم ترك كلّ شيء وحضر، فيما آخرون لم يقدروا بسبب تأذّيهم في أفراد عائلاتهم أو بيوتهم»، مستدرِكاً بأنه «أمكن استيعاب الصدمة رغم الإمكانات المحدودة، بعد الاستنفار الكامل ووضْع خطّة عمل فورية، لكن المنغّصات ظلّت قائمة، وتحديداً في ما يتعلّق بنقص الأدوية، التي عُوّضت من الشركات الخاصة الأهلية بعد تلبيتها النداء وتأمين حاجة المشفى من أدوية التخدير والمسكّنات والسيرومات وغيرها». ويشدّد سليمان على «ضرورة رفْع الحصار من أجل تأمين هذه الأدوية والأجهزة الطبّية الضرورية، مع العمل في المقابل على جذْب العاملين في القطاع الصحّي عبر زيادة الأجور وتفعيل نظام الحوافز على نحو يسهم في ترميم الكادر البشري من ممرّضين وكادر تخدير ومستخَدمين». بدورها، تلفت الطبيبة لانا أياس، التي كانت موجودة على رأس عملها أثناء توافد أعداد كبيرة من الضحايا إلى المشفى، إلى أن نقْص بعض الاحتياجات في غرفة الإسعاف والعناية المشدّدة خلَق صعوبات كبيرة، مضيفةً أنه «جرى لاحقاً استدراك الوضع، لكن على الأطبّاء والممرّضين الذين تعرّضوا لضغط بدني ونفسي شديد».

نقص في «الإسعاف» أيضاً
ولا يستثني الشحّ سيّارات الإسعاف؛ إذ «يوجد نقص كبير في السيّارات التي يَبلغ عددها 22، رُفدت بـ10 من الأردن»، وفق رئيس منظومة الإسعاف والطوارئ في مديرية الصحة في حلب، محمد جهاد بعيج، الذي يدعو إلى «رفْد المنظومة بكادر من تمريض وسائقين وآليات وأجهزة منقذة للحياة، وليس الاكتفاء بأجهزة قياس الضغط وسيّارة إسعاف قديمة»، لافتاً إلى أنه «منذ اللحظات الأولى، استدُعي كادر الطوارئ، مع وضع خطّة وُزّعت بموجبها سيّارات الإسعاف على المناطق المتضرّرة لنقل المصابين والشهداء إلى المشافي». ويؤكّد مدير صحّة حلب، زياد حاج طه، لـ«الأخبار»، من جهته، تضرُّر القطاع الصحّي بشدّة بسبب الحرب والحصار «إلى درجة وصلت حدّ الانهيار»، مستدرِكاً بأن هذا القطاع «استطاع بإمكاناته المتواضعة استيعاب الصدمة ومواجهة الكارثة وتقديم الخدمات الطبّية اللازمة للمتضرّرين من الزلزال». وينبّه طه إلى أن «عدداً من المشافي العامة والخاصة مهدَّدة بالخروج من الخدمة بسبب الحصار الاقتصادي، حيث لا تستطيع تأمين الأجهزة الطبّية المتطوّرة اللازمة لعملها جرّاء عدم قدرة الشركات المورّدة على إحضارها إلى سوريا، فضلاً عن وجود نقص شديد في الأدوية وخاصة المزمنة والأورام واللقاحات وغيرها». ويطالب بـ«رفْع العقوبات عن سوريا بصورة عاجلة، وهذا ليس استجداءً وإنّما حق للشعب السوري، بغية تحسين الرعاية الطبّية للسوريين وتأمين الدواء للمرضى وإنقاذ آلاف الضحايا».



من «المفارش» إلى التجهيزات والأدوية: هذا ما يحتاجه القطاع الصحّي السوري
منذ السنوات الأولى للحرب في سوريا، بدأ النظام الصحّي في البلاد يتدهور شيئاً فشيئاً، حتى وصل إلى مرحلة مأساوية مع تقدُّم عمر الحرب، وهجرة الأطبّاء والطواقم التمريضية، وضعف التجهيزات الاستشفائية والدوائية. ومنذ فرْض الولايات المتحدة عقوباتها على سوريا ضمن قانون «قيصر»، تأثّر هذا القطاع بشدّة، وصار استيراد الأدوية والمعدّات الطبّية غير المتوافرة في السوق المحلّية، يشكّل تحدّياً كبيراً ويومياً للحكومة، ولكامل الطاقم الصحّي. وإذا كانت هذه هي حال النظام الطبّي هناك، فكيف له أن يواجه كارثة كبرى كالزلزال الذي أدّى إلى إصابة عشرات الآلاف، ممّن يحتاجون إلى رعاية صحّية فورية وكاملة؟ في الاستطلاع الميداني الذي أجرتْه «الأخبار»، يتبيّن أن الحاجات الأساسية لدى المستشفيات ومراكز الرعاية الصحّية في سوريا عموماً، وفي المناطق التي تضرّرت بالزلزال خصوصاً، تتمثّل في المعدّات الطبّية المختلفة، حتى تلك البسيطة منها، كـ«المفارش» التي توضع تحت المرضى، وحاملات الأمصال، والكفوف والأقنعة، وصولاً إلى التجهيزات الخاصة بغرف العمليات والعناية الفائقة. وفضلاً عن التجهيزات، يعاني القطاع الصحّي السوري من نقص كبير في الإمدادات الدوائية، كونه ممنوعاً من استيرادها، وغير قادر على تصنيعها محلياً. في الجدول أدناه، أبرز التركيبات الدوائية التي تحتاجها المرافق الصحّية السورية، سريعاً، للتمكّن من متابعة مصابي الزلزال.