«ما الذي يجنيه الإنسان في النهاية؟ما هو القدَر المحتوم على البشر؟
سوف يُصبّ الجصّ على رأسه،
والكلس على جبهته.
نعم، سأموت مع كلّ الفانين،
نعم بالتأكيد سوف أموت».

(ملحمة أقهات)

امتدّ البياض على طول الطريق الواصل بين الحدود اللبنانية والسورية، فيما الزمن الذي تُعاود فيه المأساة السورية الدوران، كان يُواصل تقدّمه أيضاً مِثل شعاع ضوء لا ينقطع. لم تُسعفني الدقائق التسعون، التي اتّخذتُ فيها قراري بمرافقة قافلة المساعدات التي انطلقت من صيدا إلى اللاذقية، لتَذكّر دروس الجغرافيا التي تلقّيناها لدى الأستاذ فاعور سواعد في المدرسة الابتدائية في مجد الكروم في الجليل الأعلى؛ إذ صُعقتُ حين علقنا بين الثلوج المتراكمة حولنا في ليلةٍ ذاتِ نجوم، ووجدتُ لنفسي الحقّ في معاتبة أستاذي سرّاً كوْنه لم يَذكر أمامنا أن الثلوج تجتاح هذه المنطقة في موسم الصقيع. أكثر من ثلاث ساعات ظلّت خلالها سيّارتنا عالقة، فيما قافلة الشاحنات تعطّلت هي الأخرى أكثر من عشر ساعات، بين معبر المصنع الحدودي، وأوّل حاجز للجيش السوري. كُنّا أربعة في السيّارة، نحاول التدفّؤ بأنفاسنا، معتقدين، على رغم هول المقاطع التي عبَرت أمامنا في التلفاز، أن البرد سيكون أقسى ما سيصادفنا هناك، وأن هذا الكفن الذي لفّ سوريا المكلومة، حيث لا تتّسع الأرض للموت ولا للقبور، هو نهاية الأشياء. لم نكن قد رأينا بعد حجم الدمار الممتدّ على طريق دمشق - حمص - اللاذقية، كما لم نكن بعدُ قد وصلنا إلى حيث أجهزَ الزلزال على كلّ شيء.
كانت الساعة الرابعة فجراً، حين وصلْنا إلى أحد الفنادق في دمشق، حيث استضافنا «الاتّحاد الوطني لطلَبة سوريا». لم نُرِد عندها أكثر من ماء ساخن يدفّئ أجسادنا المرتجفة. نصحَنا موظف الفندق بأن نفتح صنبور المياه لوقت طويل، فالماء الساخن، مِثل أشياء كثيرة، هنا، يستغرق وقتاً للوصول أيضاً. في الصباح، بدت لي أبنية العاصمة من شبّاك الغرفة شاحبة حزينة، أو هكذا خُيّل إليّ، ذلك أن كلّ شيء في هذه البلاد «يبكّي الحجر». لم يمضِ وقت طويل قبل استفاقة الآخرين، فيما إسماعيل حفوضة، أحد الأصدقاء الذين شاركونا الرحلة، قد سبقنا مع آخرين عائداً إلى قافلة الشاحنات التي لا تزال عالقة في الثلوج. هبطْنا درجات الفندق، متّجهين إلى غرفة الطعام لتناول الفطور الذي «لم تفتح نفسنا» عليه لكوْن عقولنا وقلوبنا في مكان آخر. اكتفينا بتناول الشاي منتظرين وصول فؤاد، وهو صديق زميلنا في القافلة، ماجد عبد الجواد، الذي عاش في الشام سنوات طويلة، وشارك في تأسيس شبكة الاتّصالات الخلوية في سوريا بداية الألفية الثانية.
وصل فؤاد أخيراً. رجل شاحب مثل المدينة، يُذكّر بوجوه أبو قيس وسعد ومروان التي رسمها غسان كنفاني في «رجال في الشمس». فهو نحيل مثلهم، ويبحث في ما يبحث عنه في «رحلة البقاء» في الشام عن حياة أفضل، لا يريدها في الخارج حيث قُدّمت له عروض عمل. فهو يصرّ على البقاء هنا كنوع من أنواع الهروب، مع أن مرتّبه لا يسعفه لفعل شيء. يحدّثنا عن المدينة التي عانت ويلات الحرب، فيما يستذكر مع زميله عبد الجواد «الأيام الخوالي» في «سيريا تيل»، حين كانت دمشق «في عزّها». يخبرنا، بينما يدخّن بشراهة مطلِقاً من فمه عموداً متصاعداً إلى اللامكان، أن الماء والكهرباء والمحروقات أنهكت قلوب السوريين، مندهشاً كيف لشعب كان بلده «في القمّة»، أن يصل به الأمر خلال سنوات قليلة إلى أن يقف في طوابير طويلة لتسلّم الخبز والبنزين. وصول القافلة ظلّ متعسّراً، فالجليد على الطريق لم يمكّن السائقَين، الحلبي والبقاعي، من التقدّم أبداً. ذلك البقاعي نصحنا، فيما كُنّا لا نزال عند «المصنع»، بأن نبيت ليلتنا على الحدود اللبنانية، ولكنّنا أصرّينا على مخالفة اقتراحه. كان غاضباً منّا، قبل أن «يطبطب» عليه إسماعيل بالقول: «والله كان معك حق يا عم». أمّا الحلبي الذي قاد القاطرة والمقطورة، فلم يولِ اهتماماً لهذا الجليد، ربّما بسبب ما مرّ به من ويلات منذ عقْد. ظلّ مصرّاً على أنه سيتغلّب، على رغم قساوة الطقس، على الطريق الالتفافي الصعب في نزلة وادي القرن. اقترح فؤاد أن نقوم بجولة في سوق الحميدية إلى حين طلوع الشمس وذوبان الجليد. لمَ لا؟ غير أن الجولة في السوق الذي بدا فارغاً إلّا من البائعين، لم تكن في محلّها أبداً، فالقلب لا ينقصه «حزن مثل أسواق العراق»، كما يقول مظفر النواب.
اشتريْنا كفوفاً وطواقي من صوف؛ فالبرد حيث سنصل أخيراً ليس أهون ممّا صادفَنا في الطريق. ناجيتُ أستاذي، إنْ كان لا يزال حيّاً، أن يبلغ طلابه أن الثلج يسقط في سوريا. لكن ما حاجتهم إلى هذه المعرفة أصلاً؟ فهذا سوق الحميدية، وليس سوق البلدة القديمة في القدس! ثمّ ما الذي سيأتي بهم إلى هُنا، والاحتلال يمنع عنهم أبسط أنواع التنقّل والحركة، فكيف بـ«رحلة» من هذا النوع، أو بمساعدة «إخوانهم» في سوريا؟ فجأة يرنّ الهاتف. إنه إسماعيل، يرسل لنا مقطعاً مصوّراً يوثّق فيه نجاح القافلة في التقدّم أخيراً. كان يضحك من قلْبه وهو يكبّر، فأخيراً سنتابع طريقنا إلى اللاذقية وريفها المنكوب. في الساعة الثالثة عصراً، انطلقنا من دمشق. في الوسط بيني وبين إسماعيل، جلست الزميلة صفاء صلال، التي قرّرت سريعاً أن تُصاحبنا في رحلتنا. على الطريق الواصل بين دمشق وحمص، راحت العيون تتابع مشهد الأبنية التي دمّرتها الحرب على امتداد أكثر من ساعة. وباستثناء بعض حبال الغسيل التي نُشرت عليها ثياب ملوّنة، وأطفال صنعوا من دواليب السيارات التالفة مرميَين متقابلَين للعب كرة القدم، لا إشارات حياة هنا. حتى شجرات السرو، في الصحراء البنّية، وقفت حانية جذوعها بثبات، وكأنها لم تتحرّك منذ زمن سحيق.
صفاء، ابنة دير الزور، أصرّت أن تُبكيني؛ إذ طلبت مني أن أحكي لها عن فلسطين. بقيتُ أحدّق من خلال النافذة في صمت مطبق، بعدما علقت دموعي في حنجرتي مثل قطعة سفرجل، وكسحت لساني، فأقعدتْه بين الفكّين. ما الذي سأحكيه لها؟ وهل مأساتها أصلاً أقلّ إيلاماً من مأساتي؟ توقّفنا في استراحتَين فقط على الطريق بينما الثلج يتساقط. كان المساء قد هبط، وسط انقطاع تامّ للتيّار الكهربائي. حتى دخول الحمام كان مستحيلاً من دون ضوء الهاتف. صاحب إحدى الاستراحتَين، حين علم سبب قدومنا من لبنان، استنجد بنا أن نبقى في استضافته قليلاً. يا ليتنا بقينا عنده ولم نستعجل اقتحام الفاجعة! رحتُ أفكّر بأولئك الفقراء الذين أَرسلوا من بيوتهم أكياس أرزّ وعدس، وبذلك الرجل الذي أتى قائداً دراجته النارية ليوصل إلى حملة المساعدات غطاءَين بدا في أَمسّ الحاجة إليهما، وبتلك المرأة التي نزلت من بيتها في الناعمة وقدّمت قطعتَين من الكعك الإسفنجي ليس إلّا... بالملهوفين الذين تبرّعوا بعلب حليب أطفال يتطلّب الحصول عليها في لبنان «إجراءات» أقسى من إجراءات تأشيرة الدخول إلى أوروبا، وبمَن تبرّعوا أيضاً بالفرش والوسائد والأغطية وثياب الأطفال والمواد التموينية... وفي لحظة، لمحت في عيون الجالسين حولي لمعاناً يشبه البلّور. لعلّ رفاقي في القافلة كانوا أيضاً غارقين في التفكير بفقراء بلدهم الذي لا تنقصه هموم فوق همومه. تابعنا طريقنا، فيما وضعتُ رأسي على كتف صفاء، وفعلت هي الأخرى مثلي، ولم نستيقظ إلّا حين وصلنا إلى محافظة اللاذقية، ربّما بسبب جلبة الشاحنات التي سارت خلْفنا، أو بسبب ضجيج الكارثة المتواصل.