اللاذقية | في جامعة تشرين في اللاذقيّة، توزَّع «جيش» من متطوّعي أعضاء «الاتّحاد الوطني لطلَبة سوريا». شكّل هؤلاء جسراً بشرياً في ساحة الحرم الجامعي، وراحوا يُفرغون المساعدات في صالة السينما، في مهمّة استمرّت حتى الواحدة بعد انتصاف الليل. في الصباح، شُرع في الترزيم والفرز، فيما بدأ بعض «الناجين» من الزلزال بالوصول إلى المكان. تجمهَر بعض المتطوّعين حول امرأة تحمل طفلاً، قدِمت من دمسرخو الواقعة في ريف اللاذقية، والتي تعرّضت لأضرار فادحة جرّاء الكارثة. وقفت المرأة المفجوعة، وهي تتوسّل باكيةً الحصول على حليب وحفّاضات لطفلها، مؤكّدة أنه حيث تبيت مع آخرين في أحد الجوامع، ليست ثمّة بطّانيات كافية. راح طفلها يبكي بشدّة حين وضعتْه على الأرض بعدما تعبت من حمْله، وبينما هو هكذا، وقعَت يداه على كيس من بين آلاف الأكياس المكوّمة، واستلّ منه «خرخيشة» راح يحرّكها سعيداً مضحِكاً أمّه. قبل أن تغادر بصحبة زوجها في السيّارة التي تركها لهم الزلزال، كان ناجون إضافيون قد وصلوا أيضاً: امرأة خرساء، وطفل في العاشرة من عمره، وشقيقتان توأمان. همست إحدى التوأمين، اللتَين قدمتا من مخيم الرمل الجنوبي الفلسطيني، في أذني إن كان بالإمكان مساعدتهما ببعض الثياب الداخلية والفوط الصحية، فيما خجلت الثانية، الشديدة النحافة، مُواريةً دموعها، قبل أن تنسحب من المكان. أمّا الخرساء، فتولّت إحدى موظّفات الجامعة مساعدتها، واستفهام حاجاتها. بعد ذلك، دخلت خمس نسوة قَدِمن من اسطامو، لأخذ الحليب والحفاضات لأطفالهنّ.تذكّرتُ، في غضون ذلك، ابنة العشرة أعوام التي كانت ترقد في مستشفى تشرين بعدما أجهز الزلزال على أفراد عائلتها، تاركاً إيّاها وحيدة. تلك الطفلة لم تتردّد في الطلب من هيا أصلان، ابنة المدينة المتطوّعة بينما كانت تهمّ بالخروج عقب انتهاء الزيارة: «خالة، أمانة الله ما تنسيني من المكياج». لم تَعُد تريد سوى علبة المكياج، فيما المُدرّسة التي التقيناها عند مفرق عين عروس في القرداحة، تتمنّى لو أنها لم تشترِ البيت الذي خرجت حيّةً منه بـ«معجزة»، بعدما وضعت فيه تعب ثلاثين عاماً في مهنة التعليم، قائلةً: «ليتني بقيتُ في حلب ومتُّ في الحرب هناك». أمّا ابنتها (سيدرا، ط)، فراحت تسرد بصوت مبحوح ما حصل: «كنتُ أشرب المتّة، ممسكةً بهاتفي. كانت ليلة عاصفة. لم أستوعب بعد كيف بدأ البيت يتحرّك، الخزانة وقعت، كنت أركضُ في اتّجاه غرفة أمّي، وجدتُها مستيقظة، مفزوعة. أمسكتُ بيدها ولا أعرف كيف وقعت يدي على كمشة المفاتيح. كانت أمي قد أقفلت البابَين، باب الحديد وباب الخشب؛ إذ إن أخي وأبي في العراق يعملان هناك، ونحن ننام وحيدتَين في المنزل. كانت أمّي تبكي خلفي فيما يقلبنا الزلزال من حائط إلى آخر. لا أعرف كيف وجدتُ المفتاحَين المناسبَين وتمكّنتُ من فتْح البابَين، فيما كانت البناية تنهار».
في الصباح، شُرع في الترزيم والفرز، فيما بدأ بعض «الناجين» من الزلزال بالوصول إلى المكان


تأخذ الفتاة نفَساً عميقاً قبل أن تُتابع: «سمعتُ استغاثة جيراننا الذين قضوا في الزلزال، ولا أعرف كيف خطر لي أن نصعد إلى السطح. فنحن في الطابق الأخير وليس أمامنا إلّا بضع درجات. وقعتْ أمّي على الدرج، وكانت تبكي وتقول أشهد أن لا إله إلّا الله، اتركيني وروحي، ما تموتي بسببي. لم أَتركها، أمسكتُ بيدها حتى وصلنا. تمسّكت أمي بأسياخ الحديد وجلستْ على الأرض، لكنّني رحتُ أتدحرج من ناحية إلى أخرى فيما انهارت البناية أخيراً وهدأ الزلزال. بعد دقائق، حين لم يتبقَّ سوى صوت المطر المنهمر وصرخات العالقين، اختنقتُ، فيما شكّل الدم حولي بقعة واسعة، بقيتُ لأكثر من دقيقة معتقدة أنني في طوْر الموت. أدرتُ وجهي نحو أمّي وقلت لها قُومي». بعد ذلك، تضيف سيدرا: «مشيتُ وأمّي إلى منزل أختي في إحدى نواحي قرية القبو، وهو حمداً لله لم يتضرّر. كُنّا حافيتَين نسير في الطريق مع أبناء القرية، في الوحل والبرد القارس، فيما يتساقط المطر علينا. لمّا وصلنا غبتُ عن الوعي، ولم أستيقظ إلّا بعدما انتهوا من تقطيب الجرح العميق في ذقني في المستشفى».
عند مفرق عين عروس أيضاً، وقف الطفلان يوسف وخضر لوقت طويل متفرّجَين، قبل أن يطلبا منّا القدوم لرؤية بيتهما المتصدّع. مشينا خلْفهما في طريق ترابي وعر، حيث بدآ يبثّان خوفهما الذي لم يفارقهما منذ ليلة الزلزال، ويحكيان كيف يتناوبان مذّاك مع أشقّائهما وأمّهما ووالدهما على السهر. سألتُهما إن كانا يذهبان إلى المدرسة، فأجابا: «مش كل الإيام يا خاله، بس تشتي الدنيا ما منروح لإنه المدرسة بعيدة وما عنا سيارة». وصلنا إلى البيت أخيراً، حيث استقبلتنا الأمّ التي يبدو واضحاً من هيئتها أنها تعاني تضخّماً في الغدة الدرقية. كانت شاحبة ونحيلة، وعلى رغم البرد ليس في قدميها سوى «شحاطة» صيفية بلا جوارب. وصفتْ ليلة السادس من شباط بأنها «فظيعة»، مستدرِكةً: «الحمد لله، بيتنا طابق واحد أرضي. تمكّنا من الخروج سريعاً إلى البورة، ولكنّ الزلزال أحدثَ شقوقاً وصدوعاً طويلة في المنزل الذي نخشى انهيار جدرانه علينا». ولجنا إلى البيت حيث سلّمتُ على الفقر الأسود يداً بيد. على الأرض، ثلاث إسفنجات بالية، وإلى جانبها كنبة خشبية فوقها قطعتا إسفنج لا تتعدّى سماكتهما بضعة سنتيمترات. قالت المرأة إن زوجها مريض قلب، يذهب كلّ مساء إلى فرن في القرداحة، ليساعد هناك في إعداد الخبز، الذي يعود إلينا به لنأكله. لم أفكّر مرّتَين قبل أن أُصدّقها، فبالمعنى الحرفي للكلمة ليس في البيت أيّ شيء حتى الطعام! أضافت أنها تعاني من مرض السكّري والغدة الدرقية، ولكنها لا تملك ثمن شراء الدواء. تابعت، قبل أن نغادر بيتها، أنها لم تنم على سرير منذ تزوّجت قبل أعوام طويلة، وأن حلمها فقط أن تنام على سرير.
من مفرق عين عروس، غادرنا إلى جبلة، تلك المدينة الوادعة التي تداعب خدّ البحر برفق. مررْنا بالشارع الذي انهارت فيه الأبنية. لفتتْ نظري خصوصاً لعبة لطفل قضى في الزلزال. كان القرد اللعبة، الذي بدا أنه هرِم في الثواني الأربعين، يحدق فيّ من قلْب الردم بينما الدموع تكرج على خدَّي، قبل أن يقطع بكائي صوتُ أحدهم: «الله بعوّض!». تقدّمْنا إلى جهة البحر بعدما طلب منّا سائق الجرافة الابتعاد. وصلنا إلى شارع الغزالات الذي لم يبقَ فيه حجر على حجر. هناك، قضى الطبيب فايز عطاف وزوجته الدكتورة هالة سعيد، لتبكيهما جبلة واللاذقية وأريافها الفقيرة المسحوقة، فهما طبيبا الفقراء اللذان لم يتقاضيا قرشاً من مرضاهما لسنوات طويلة خلت. مرّت امرأة من المكان باكية. سألتُها: «هون كان بيتك؟»، فأجابت: «لا، هنا كانت تعيش أختي»، قبل أن تبدأ بتعداد أسماء العائلات التي قضت نحبها في تلك الليلة. استضافتْنا الطبيبة ميادة إسبر وزوجها عبد حسين في منزلهما المطلّ على البحر. كانت الشمس توشك على الاختفاء بينما ميادة تبكي بحرقة وهي تستذكر زميلَيها فايز وهالة، اللذين خلّف رحيلهما حزناً عميقاً في روحها. حزن لن يحملها، على عظمته، على ترْك جبلة. تقول لي: «انظري إلى الغروب، هل هناك مكان في هذا العالم أحلى من هذه المدينة؟». كدتُ أجيبها: نعم، عكا أجمل، ولكنّني صمتُّ، أنا التي تركتُ مدينتي الأجمل تحت وطأة احتلال لا يُفارق فِعله فِعل الزلزال الذي مرّ من هنا.
في وداع اللاذقية، كَثُر الصمت والتحديق في العيون المكسورة، في الظهور التي انحنت وهي تحاول الوقوف حرباً بعد أخرى، وفقراً بعد جوع، قبل أن ترتعد الأرض تحتها أخيراً، مُحوِّلةً آخر مأمن تبقّى لهؤلاء إلى عدوّ لدود. فالسقف الذي ينام المرء تحته مستدفئاً، قد يقرّر، في لحظة جديدة ما، أن ينهار فوق ساكنيه، وأن يَطحن مَن «نجا» منهم. «نجاةٌ» تكاد تُعادل الموت نفسه؛ ففي اللاذقية وحلب وإدلب وحماة، يسير المعذَّبون على حافّة الهاوية... هاوية سحيقة تدعى اللعنة السوريّة!