غزة | للتوّ فرغ الطبيب نضال أحمد من المشاركة في عملية جراحية لعلاج أحد ضحايا الحرب على قطاع غزة، وبعد أن نزع قفازيه أخذ يمسح العرق المتصبب من جبينه، ونفخ زفرة طويلة تعكس حجم الإرهاق الذي يعانيه. فيما من المقرر أن يدخل بعد نصف ساعة غرفة العمليات مجدداً لإجراء عملية أخرى لمصاب فقد أحد أطرافه.
ومنذ نحو عشرين يوماً والطبيب أحمد، وهو في منتصف عقده الثالث، يواصل عمله جرّاحاً في مستشفى كمال عدوان شمال القطاع، ويقول إن ما يجعله يصمد أنه «يؤدي مهمة إنسانية لا تقل أهمية عن المقاتلين في الميدان». وجزء كبير من هؤلاء الأطباء، وخاصة التابعين لحكومة «حماس» السابقة لم يتقاضوا رواتبهم منذ أربعة أشهر، لكنهم لا يزالون على رأس عملهم أسوة بباقي الأطباء الذين تصرف رواتبهم حكومة التوافق الوطني، على اعتبار أنهم كانوا معينين ضمن حكومة رام الله السابقة.
يحتسي الطبيب فنجان قهوة وفي يده سيجارة وهو واقف مقابل نافذة تطل على بوابة المستشفى الوحيد في المنطقة، ويخبر أنه لم يتذوق النوم منذ ساعات طويلة، وقد اكتفى بجرعة القهوة بديلاً من المأكل والمشرب، وخصوصاً أنه فقد شهيته لتناول الطعام، نظراً إلى صعوبة مناظر الشهداء والجرحى الذين يصلون تباعاً.
بعض الأطباء جاءهم
أبناؤهم وهم شهداء إلى داخل المستشفيات
بعد أقل من خمس دقائق من الاستراحة التي قضاها الطبيب، علماً بأنه لم يلتق أسرته منذ أكثر من عشرة أيام، دخلت «كمال عدوان» على عجل سيارتا إسعاف تقلان جرحى أصيبوا في منطقة أبراج الشيخ زايد شمال مخيم جباليا، فهمّ مسرعاً وهو يعلق على كتفه سماعة فحص النبض، ليقف عن قرب على حالة هؤلاء المصابين.
ولم يظفر معظم الأطباء في غزة برؤية ذويهم خلال الحرب التي امتدت على مدار أكثر من تسعة وعشرين يوماً، وراح ضحيتها ما يزيد على 1850 شهيداً ونحو تسعة آلاف جريح، حتى إن بعضهم اكتفى بمعايدة أسرته عبر الهاتف خلال أيام الفطر.
واستغل المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، الطبيب أشرف القدرة، إعلان التهدئة المؤقتة صباح الجمعة الماضية، فسارع للانتقال من مكان عمله داخل مجمع الشفاء الطبي وسط غزة إلى محافظة خانيونس جنوباً، وذلك للاطمئنان إلى صحة زوجته وأطفاله الأربعة.
يقول القدرة، وهو حاصل على شهادة في الطب البديل من الباكستان، إن هذه هي المرة الثانية التي يلتقي فيها أسرته منذ بدء الحرب، لكنه سرعان ما قطع الزيارة بعد وقت قصير جداً بفعل خرق الاحتلال التهدئة واستئنافه القصف في المحافظة الجنوبية. عاد القدرة كما غيره إلى مجمع الشفاء سريعاً وهو يرتدي معطفه الأبيض، وهاتفه لم يتوقف لحظة عن الرنين جراء اتصال وسائل الإعلام المحلية والدولية المتكرر لمعرفة نتائج القصف وعدد الشهداء والجرحى. ويخبر الناطق باسم الصحة عن صعوبات جمة باتت تواجههم بفعل استهداف غالبية مستشفيات القطاع ومراكز الطوارئ فيه، الأمر الذي بات يؤرق الأطباء عموماً والكادر الطبي في «الشفاء» على وجه الخصوص، لأنه لم يعد لأكثرهم القدرة على مواصلة العمل جراء العدد الذي يفوق طاقتهم من الجرحى وهم يتوافدون على مدار الساعة.
ويظهر القدرة أن هناك ألماً كبيراً يعتصر قلوب الأطباء، «وخصوصاً أولئك الذين فقدوا أقرباءهم أو دمرت بيوتهم وهم على رأس عملهم»، مشيراً إلى أن عدداً كبيراً من الأطباء كانوا يتناولون جرعة الماء في رمضان الماضي اضطراراً داخل غرفة العمليات، «بل لم يسعف الظرف آخرين في تبديل ملابسهم الملوثة بالدماء أثناء تناول الوجبات الغذائية». ولم تخل الأخبار من أطباء وصل إلى مكان عملهم قرابتهم من الشهداء أو المصابين حتى من أبنائهم. أما عن التعامل مع آلاف الحالات التي تفوق طاقة المراكز الصحية، فأشار المتحدث باسم «الصحة» إلى أن هناك نقصاً كبيراً في عدد الأسرّة، وأن عدداً كبيراً من المصابين جرى التعامل معهم على الأرض، متابعاً: «هناك من لم يقض المدة الكافية من العلاج داخل المستشفى، فقد اضطروا إلى إخلائهم من أجل استيعاب المئات من الحالات الوافدة». محمد أبو عرب واحد من الأطباء الوافدين إلى غزة، وهو فلسطيني الجنسية ويقيم في النرويج، وجاء برفقة عدد آخر من الأطباء ليساعدوا في إنقاذ جرحى العدوان.
يقول هذا الطبيب إن التعامل مع المصابين يجري وفق قاعدة «الأولوية لمن يمكن إنقاذه»، ويفسر أبو عرب المشهد بالقول: «كنا نواجه خيارات صعبة وقاسية، فاضطررنا في بعض الأوقات إلى رفض التعامل مع الحالات التي يصعب تماثلها للشفاء وإمكانية إنقاذها ضئيلة جداً مقابل إنقاذ الجرحى الذين تكون احتمالية حياتهم قوية». لكنه أكد لـ«الأخبار» أن الأطباء يتعاملون وفق نوعية الإصابة وخطورتها، «ويكثفون جهودهم في التعامل مع الحالات التي فيها أمل كبير للشفاء». عن أكثر المشاهد التي أثرت فيه، يوضح أن حالات الأطفال التي كانت تردهم، «وخصوصاً المقطعي الأوصال»، كانت تشعره بغصة كبيرة، مبيناً أن ربع الشهداء في القطاع هم من الأطفال، «وهو أمر يخالف مزاعم الاحتلال عن ضرب قوى الإرهاب في غزة». تجدر الإشارة إلى أن الحرب أودت بحياة أكثر من عشرة من أفراد الكادر الطبي في غزة، فيما استُهدف نحو 13 مستشفى، بالإضافة إلى تدمير 9 سيارات إسعاف. ووفقاً لإحصاءات الوزارة، أدى العدوان إلى إغلاق 27 مركزاً طبياً في مناطق متفرقة من القطاع، فيما تعاني المرافق الصحية نقصاً شديداً في المعدات والأدوية.
وليس مبالغة القول إن الأطباء لا يجدون وقتاً قصيراً لإجراء مقابلة صحافية. ففي زيارة قصيرة لـ«الشفاء»، يظهر أن الأطباء يعملون كخلية نحل، وخصوصاً في قسم الاستقبال، إذ يجري تسجيل المصابين وتحويلهم إلى الأسرّة للتعامل معهم. وقد تلطخت ملابس هؤلاء الأطباء بلون الدم.
ولا عمال النظافة أيضاً فرصة لالتقاط الأنفاس، فهم يعملون على مدار الساعة لشطف أرضية المستشفى من الدماء، كذلك تجري عمليات التعقيم على قدم وساق. أما في ثلاجات الموتى، فلا يتوانى طاقم التنظيف للحظة عن رش العطور لتبديد رائحة الجثث المتحللة التي تُنتشَل من تحت الأنقاض.