عادت سوريا، عقب الزلزال المدمّر الذي ضربها وتركيا في السادس من شباط، إلى واجهة الأحداث، لكن هذه المرّة على وقْع الخلاف حول كيفية إدخال المساعدات الدولية والأممية إلى البلد المنكوب، في ظلّ وجود مناطق خارجة عن سيطرة دمشق، والعقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على الأخيرة. وجدت واشنطن وبروكسل نفسَيهما، إثر ذلك، واقعتَين تحت ضغط الحاجة إلى التراجع عن حصارهما الخانق ضدّ سوريا، بينما بدأت مقاربات الدول العربية تتّخذ أشكالاً أكثر وضوحاً وثباتاً، بعدما هيمنت عليها، خلال عام 2022، الحرب الروسية - الأوكرانية، وأزاحت سوريا من قائمة أولوياتها (على عكْس الفترة الواقعة بين عامَي 2011 و2019)، وشغلتْها بمحاولة الموازنة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والهند والصين.وكانت المتغيرّات التي شهدها الإقليم منذ عام 2013، بدءاً من إطاحة حُكم «الإخوان المسلمين» في مصر، مروراً بنموّ التنظيمات الإرهابية وسيطرتها على مساحات واسعة في سوريا والعراق، لعبت دوراً في إعادة تشكيل التحالفات، حيث اضطرّت قطر وتركيا إلى إجراء تغييرات تكتيكية في دعْمها للجماعات الإسلامية، بينما بدأت بلدان أخرى مِن مِثل السعودية والإمارات وبشكل أقلّ الجزائر تستشعر خطراً متزايداً من تلك الجماعات. هكذا، تَقلّص تدريجاً الدعم المالي - الهائل - للمعارضة السورية المسلّحة التي سيطرت عليها في أغلبها تيّارات إسلامويّة مُتطرّفة، فيما لم تَعُد مسألة تغيير النظام السوري عبر العمل المسلّح ممكنة، خصوصاً منذ اقتحام روسيا الساحة السورية عام 2015. وعلى خطّ موازٍ، أصبحت البلدان الخليجية (السعودية والإمارات) ومصر - بشكل أقلّ - أكثر قلقاً على أمن الملاحة البحرية، ومن النفوذ الإيراني المُتزايد في العراق وسوريا ولبنان وحديثاً اليمن، بالإضافة إلى مخاطر الأمن السيبراني والإرهاب.
وبنتيجة كلّ تلك المتغيّرات، وعلى ضوء أداء الدول العربية في أعقاب الزلزال الكارثة، يمكن القول إن ثمّة مقاربتَين عربيتَين في التعامل مع القضية السورية، الأولى إماراتية – مصرية، والثانية سعودية. وإذ تشترك كلتاهما في هدف واحد هو إنهاء الصراع وعودة الاستقرار والأمن إلى البلاد، إلّا أنهما تختلفان في الوسائل والطُرق والخطاب الديبلوماسي.

المقاربة الأولى (الإماراتية – المصرية)
الاتّصال الإماراتي - المصري مع دمشق، استند إلى التحوّل في أولويات السياسة الخارجية للبلدَين، وتقدير مصالحهما الاقتصادية والأمن القومي، وهو ما بدأ منذ عام 2013. آنذاك، توقّفت أبو ظبي والقاهرة عن تبنّي موقف الإدانة الحادّ والعلني ضدّ النظام السوري والدعم الكامل للمعارضة، كما كان سائداً بين عامَي 2011 و2012. بالنسبة إلى القاهرة، بقيت القنوات الديبلوماسية والاقتصادية والاستخبارية مفتوحة بشكل غير رسمي، فيما أعلن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بوضوح، في زيارة له إلى الولايات المتحدة بعد تولّيه منصبه، أن سوريا هي العمق الاستراتيجي لمصر، ودعا إلى احترام وحدة أراضيها، محذّراً من تقسيمها أو تفتيتها، ومؤكداً أن هذه المسألة على صلة بالأمن القومي المصري. في السنوات الأخيرة، لم يتغيّر موقف القاهرة عملياً؛ إذ جدّد وزير الخارجية، سامح شكري، في عام 2020، التأكيد أن بلاده «مصمِّمة على عودة سوريا إلى مكانها الطبيعي على الساحتَين الإقليمية والدولية». لكن مصر ظلّت حريصة على إظهار نوع من التمايز في موقفها، وهي رعت اتّفاقَي تهدئة في الغوطة الشرقية وفي ريف حمص الشمالي، كما سمحت لأحمد الجربا، الرئيس السابق لـ«الائتلاف السوري» المُعارض، بأن يمارس نشاطه السياسي عبر ما يُسمّى «الغد السوري».
الروابط الإماراتية مع سوريا ستتعمّق تدريجياً وتتزايد فاعليتها


أمّا أبو ظبي فحسمت أمرها لاحقاً بالانفتاح على دمشق، خصوصاً مع تفاقُم التوتّرات الإقليمية في ملفَّي ليبيا واليمن بين عامَي 2015 و2018، وتوسُّع الحضور التُركي والإيراني على نحوٍ بات من وجهة نظرها بحاجة إلى تركيز جهود أكبر، بالإضافة إلى التوتّر داخل البيت الخليجي وقطْع العلاقات مع قطر. كذلك، لعبت المصالح المشتركة دوراً في التقارب بين سوريا والإمارات، ولا سيما أن الأخيرة كانت ثاني أكبر استثمار أجنبي مُباشر في الأولى قبل عام 2011. هكذا، استغلّت أبو ظبي قوّتها الاقتصادية في دمشق، واعتبرت أن الانخراط مع النظام سوف يأخذه بعيداً ولو بشكل تدريجي عن إيران، وأن تقديم حوافز له قد يؤدّي إلى إحراز تقدّم أفضل ممّا أفرزتْه فرضيات غير واقعية لم تنجح أبداً لأكثر من عقْد. وعليه، أضحت الإمارات «الشريك التجاري الأبرز لسوريا» بحسب وزير الاقتصاد الإماراتي، عبد الله المري، الذي أعلن أن التجارة غير النفطية بلغت 272 مليون دولار عام 2021.

المقاربة الثانية (السعودية)
لا تريد السعودية رؤية سوريا مجزّأة خوفاً من تأثير ذلك غير المباشر على المنطقة، لكنها تتطلّع إلى تقليص نفوذ إيران قبل أيّ تطبيع سياسي أو اقتصادي مع دمشق، التي لم تنسَ بعد، من جانبها، انخراط الرياض القوي في دعم أقوى فصائل عسكرية مُعارضة للنظام (خصوصاً "جيش الإسلام" بقيادة زهران علوش). في نهاية عام 2021، وجّه ممثّل السعودية لدى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، نقداً لاذعاً إلى سوريا، قائلاً: «لا تُصدّقوا إذا قالوا إن الحرب انتهت في سوريا، وما هو النصر الذي حقّقتْه دمشق إذا وقف زعيمهم على هرَم من الجثث؟». لكن هذا الموقف الحادّ لم يَعنِ عودة المملكة إلى دعْم العمل المُسلّح في سوريا، بل بدا متعلّقاً بالدرجة الأولى بموقف دمشق مِن الهجمات الصاروخية التي تشنّها حركة «أنصار الله» اليمنية ضدّ أهداف سعودية؛ إذ ظلّت الحكومة السورية ملتزمة الصمت إزاءها، فيما ظهرت، في تشرين الأول 2021، صورة للملحق العسكري لسلطات صنعاء، العقيد شرف الماوري، مع رئيس المخابرات العسكرية السورية، أثناء اجتماعهما في دمشق.
على هذه الخلفيّة، كما يبدو، لم تسهّل السعودية عودة سوريا إلى مقعدها في «جامعة الدول العربية»، لكن ذلك لم يمنع التعاون الاستخباري بين الرياض ودمشق؛ إذ تردّدت تسريبات، أواخر عام 2022، عن أن مدير المخابرات السورية، اللواء حسام لوقا، قام بزيارة سرّية إلى الرياض عبر مطار بيروت، استغرقت 4 أيام، بعدما كان شهد عام 2021 حدثَين مُهمَّين، هما:
1- اجتماع كشفت عنه مصادر مصرية بين لوقا، ورئيس المخابرات السعودية خالد الحميدان، في القاهرة، في ما بدا أقرب إلى محاولة مصرية لتقريب وجهات النظر من بوّابة الأمن القومي الداخلي والإقليمي.
2- مشاركة وفد من وزارة السياحة السورية برئاسة وزير السياحة، محمد مرتيني، في الاجتماع الـ47 لـ«لجنة منظّمة السياحة العالمية للشرق الأوسط» في العاصمة السعودية الرياض، حيث كانت تلك أوّل زيارة علنية لمسؤول سوري إلى المملكة منذ أكثر من عقد.
على أن ثمّة ملفّاً آخر يجعل الموقف السعودي أكثر تشدُّداً حيال سوريا، متمثّلاً في حركة تهريب المخدرات من الجنوب السوري إلى دول الخليج عبر الأردن، وهو ما تُفضّل عمّان معالجته عبر حلّ سياسي يعيد الاستقرار إلى البلاد، ويتيح مكافحة الميليشيات المُنفلتة والحدّ من تجارة المخدرات عبر الحدود. ويُضاف إلى ما تَقدّم الخلاف السعودي - السوري حول ملفّ «حزب الله»، ودوره السياسي في لبنان، حيث يحظى بدعم سوري مُطلق، فيما ترى المملكة إلى ضرورة تحجيم هذا الدور، خصوصاً أن السعوديين يَعتبرون لبنان منصّة «عدائية» ضدّهم في ما يتعلّق بالملفّ اليمني، سواءً لناحية تقديم الحزب دعماً عسكرياً مفترَضاً لـ«أنصار الله»، أو استضافتِه القنوات الإيرانية الناطقة بالعربية أو تلك اليمنية التي تبثّ ضدّ المملكة.

المستقبل السياسي للمقاربتَين
تلقّى الرئيس السوري، بشار الأسد، مكالمة هاتفية مِن كلّ من وليّ عهد أبو ظبي محمد بن زايد، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للتعزية بضحايا الزلزال، والتعهّد بتقديم الدعم اللازم لدمشق، في وقت حطّت فيه طائرة وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، في سوريا، كأبرز مسؤول عربي يزور البلاد خلال الكارثة التي حلّت بها. في المقابل، لم يتمّ الإعلان عن أيّ تواصل رسمي مِن قيادات المملكة مع دمشق، في حين بدأت الرياض تسيير رحلات مساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، توازياً مع تقديمها دعماً إنسانياً للشمال الغربي حيث معاقل المعارضة، تماماً مثلما فعلتْ أيضاً القاهرة حتى تُظهر نفسها كعنصر محايد وقادر على التواصل مع الأطراف كافّة، وهو ما تتفهّمه دمشق التي حرصت، أقلّه عبر وسائل إعلامها، على إظهار امتنانها لمصر، وفي الوقت نفسه عدم توجيه أيّ نقد غير ديبلوماسي إلى السعودية.
اللافت هو الموقف الأميركي غير المُتشدّد، أقلّه راهناً، إزاء الانفتاح العربي على سوريا، علماً أن شركات إماراتية كانت بدأت بالفعل ببناء محطّة طاقة شمسية بقدرة 300 ميغاوات بالقرب من دمشق منذ منتصف تشرين الثاني 2021، بينما تعتزم القاهرة المشاركة في أيّ عملية إعادة إعمار سوريا. ومع بدء التقارب التركي – السوري، والأردني – السوري، ستكون واشنطن أمام مهمّة صعبة في لجْم رغبة حلفائها في المنطقة في البحث عن مصالحهم الأمنية والاقتصادية، والانفصال عن مقارباتها في غير ملفّ، خصوصاً أن هذه الأخيرة تبدو متقلّبة وغير ضامنة للاستقرار.
وفي انتظار ما سيتكشّف في الأيام المقبلة، فإن الروابط الإماراتية مع سوريا ستتعمّق تدريجياً وتتزايد فاعليتها، بينما ستُحافظ مصر على موقفها الرافض لتغيير النظام عبر العمل المسلّح، والدافع نحو إجراءات سياسية تنهي حالة اللااستقرار. أمّا العلاقات السعودية - السورية الحالية فهي صعبة، وأمامها طريق طويل للوصول إلى نقطة التطبيع؛ فكلا البلدَين لديهما مصالح متضاربة مع إيران وفي لبنان والعراق، بينما تصبح المسألة اليمنية ورقة مناورة لصالح دمشق تَعتبرها الرياض خطّاً أحمر. لذا، ستبقى هذه العلاقات، أقلّه الآن، محصورة في التنسيق الأمني ضدّ الإرهاب وفي مكافحة الجرائم الدولية من خلال تبادُل المعلومات.