لطالما ارتبط اسم بلدة جنديرس التابعة لمدينة عفرين في ريف حلب (20 كلم غربيّ عفرين، 80 كلم شماليّ غرب حلب)، بإنتاج أفخر أنواع زيت الزيتون في سوريا وعموم المنطقة. إلّا أنه منذ السادس من شباط، ذاع صيت البلدة على أنها مركز الزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا. هي التي لا يتجاوز عدد سكّانها الـ 40 ألفاً. هكذا، شاءت الأقدار لجنديرس الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلّحة المدعومة من تركيا، أن تُمسح أكثر من نصف أبنيتها، وتتضرّر أخرى، ولا يبقى إلّا عدد محدود منها صالح للسكن، فيما قَبض الموت على أرواح عدد غير قليل من أهلها. ولم ينفع البلدةَ أنْ كانت الأقلّ تضرُّراً من المعارك التي دارت بين «الوحدات» الكردية، والجيش التركي وفصائل «درع الفرات» في عام 2016، وانتهت بسيطرة الأخيرة عليها، إذ جاءت الكارثة لتجعلها أكثر المناطق تضرُّراً في مساحة سيطرة أنقرة وجماعاتها - إنْ لم يكن في عموم البلاد -، ولتُكمل موجة التغيير الديموغرافي التي عانتْها أصلاً عموم منطقة عفرين، وجنديرس بالخصوص بعدما خسرت سابقاً أكثر من نصف سكّانها الأصليين الذين هجَروها خشية وقوع تصفيات جماعية بحقّهم من قبَِل الفصائل المسلّحة (تكفّل الزلزال بتهجير من تَبقّى من الأصليين والوافدين إلى مخيّمات ومدن وبلدات مجاورة). وعلى رغم هول الفاجعة، إلّا أن أبناء البلدة يُحرمون حتى من حقّ التعبير عن معاناتهم، إذ امتنع معظم من تَواصلت «الأخبار» معهم عن الحديث، خشية ملاحقتهم واعتقالهم من قِبَل الفصائل التي أظهرتْ أداءً بالغ السلبيّة في التعاطي مع مأساة عفرين.
إنها القيامة
تُظهر صور جوّية ملتقطة لجنديرس دماراً هائلاً أصاب البلدة، يشبه إلى حدّ كبير ذلك الذي لحق بمدينة قهرمان مرعش، مركز الزلزال التركي، علماً أن الأولى تُعدّ صغيرة الحجم قياساً إلى غيرها من المدن والبلدات المتضرّرة في سوريا. يقول عكيد (اسم مستعار)، من سكّان البلدة، لـ«الأخبار»، إن «كلّ كاميرات العالم لا يمكن أن تُصوّر المشهد في البلدة، بعدما تحوّلت في غالبيّتها إلى كتلة من دمار»، مضيفاً: «إرادة ربّ العالمين أرادت للقيامة أن تقوم هنا، فمعظم المنازل لم تَعُد صالحة للسكن، والبلدة في غالبيّتها قد تحتاج إلى الإزالة، وإعادة إعمارها من جديد». أمّا أبو إبراهيم، فيَلفت إلى أن «سكّان جنديرس هُجّروا بشكل شبه كامل إلى العراء، ولم يتدخّل أحد لإغاثتنا في الأيام الثلاثة الأولى، قبل أن تصلنا أخيراً فِرق من كردستان العراق والسعودية»، متابعاً أن «نحو ثلثَي المهجّرين من دون خِيام، ويفترشون العراء، وقسم منهم تَوجّه نحو أعزاز وجرابلس، في انتظار مصيرهم بعد الكارثة». ويفيد أيضاً بـ«تعرُّض المنازل، التي طالها ضرر جزئي، للسرقة والنهب من قِبَل المسلّحين المسيطرين عليها»، قائلاً: «في الزلزال أيضاً لم تَسلم مناطقنا من السرقة... حتى الكفار لا يفعلونها».
تُظهر صور جوّية ملتقَطة لبلدة جنديرس دماراً هائلاً أصاب البلدة


مخاوف من المستقبل
مع استمرار أعمال رفْع الأنقاض في البلدة، وفي ظلّ انعدام الأمل في العثور على ناجين، تشهد الإحصاءات الصادرة عن الجهات التي أشرفت على عمليات الاستجابة للزلزال، تفاوتاً ملحوظاً. إذ وفق إحصاءات «الدفاع المدني - الخوذ البيض»، فإن «عدد القتلى في جنديرس بلغ 515 شخصاً، والجرحى 813، من إجمالي عدد الضحايا في مناطق شمال سوريا، والبالغ 2274 متوفّى و12400 مصاب، فيما تهدَّم 550 بناءً بالكامل، وبات 1500 بناء غير صالح للسكن نتيجة انهدامات جزئية وتصدّعات في عموم مناطق سيطرة المعارضة». أمّا «وحدة التنسيق والدعم» التابعة لـ«الائتلاف» المعارض، فأعلنت أن «عدد الضحايا بلغ في جنديرس 756، وعدد الأبنية المهدَّمة بالكامل في البلدة وحدها بلغ 257، مع تضرّر 1100 بناء وتصنيفها غير صالحة للسكن، بالإضافة إلى تشرُّد 3900 عائلة باتت من دون مأوى».
وفي ظلّ وجود إجماع على أن إمكانية ترميم المنازل أو إعادة بنائها في جنديرس والقرى المتضرّرة في محيطها، شبه معدومة، وترجيح التوجّه نحو تسوية كاملة للبلدة أو ثلثَيها على الأقلّ، تسود شكوك في إمكانية تأمين سكن بديل للأهالي، ما سيعني اضطرارهم إلى مغادرة جنديرس نهائياً. وفي هذا الإطار، يتخوّف مصدر كردي، في حديث إلى «الأخبار»، من نيّة «الاحتلال التركي استغلال الكارثة لإحداث تغيير ديموغرافي كامل في المنطقة، بعدما تمسّك الكثير من أهالي البلدة بمنازلهم بعد احتلالها منذ 7 سنوات»، متوقّعاً أن «تلجأ السلطات التركية إلى إنشاء تجمّعات أو أبنية مسبَقة الصنع خارج المنطقة، ونقْل سكان البلدة إليها، بذريعة إعادة إعمارها لاحقاً، ما يعني تهجيراً جماعياً لِمَن تبقّى من سكّانها الأصليين».