بعيداً عن إثبات إن كانت عملية أسر الضابط الإسرائيلي في مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، قد جرت قبل بداية سريان مفعول «الهدنة الإنسانية» أو بعدها، لا تحتاج المقاومة إلى تبرير عمليتها البطولية، وخاصة في ظل أن الأسر جرى في صفوف قوات نظامية كانت في مهمة عسكرية. حتى من لديه اعتراض فليحدد سبيلاً آخر لتحرير الأسرى في السجون الإسرائيلية وإنهاء معاناة عشرات الآلاف من عائلاتهم، لكن ما تقدم لا يعني بالضرورة أن العملية كانت بعد الهدنة المذكورة.
ويحق للمقاومة السؤال أيضاً عن المجازر التي ارتكبها العدو قبل بدء الهدنة، بحق المدنيين، مستنداً في ذلك إلى تفوقه العسكري والتكنولوجي ومن دون أي علاقة بأهداف عسكرية ذات صلة بالمواجهة سوى الانتقام وزيادة معاناة سكان غزة، وهو ما يعطي المقاومة الحق في الرد على مستوى العدوان بما هو أدنى، أي عبر استهداف جنود غزاة.
صحيح أن فصائل المقاومة رأت أن المصلحة تكمن في الموافقة على الهدنة لاعتبارات تقدرها، لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن بقاء جنود الاحتلال على أراضي غزة خلال الهدنة هو استمرار في العدوان. في المقابل، يمنح هذا الوجود الحق للمقاومة بالرد بما تراه مناسباً. كما كان شرط الإسرائيلي للموافقة على الهدنة، «حقه» في مواصلة تدمير الأنفاق. شرعية ضمنية لـ«رجال الأنفاق» المستهدفين وتعطيهم الحق في الدفاع عن أنفسهم بما يرونه ملائماً. مع ذلك، تشكل عملية أسر الضابط الاسرائيلي إنجازاً عملانياً من نوع استثنائي، لأنها تشكل تجسيداً لآمال كل أسير وعائلته، وصولاً إلى مجمل الشعب الفلسطيني. خاصة بعدما أُوصدت الأبواب التي طرقها أصحاب الرهانات الأخرى. وتبين حجم إنجازاتهم في هذه المجال.
لجهة العلاقة بالخيار الإسرائيلي الحالي، فإنه قبل عملية الأسر الأخيرة يلاحظ أن العدو هدف إلى رفع مستوى الضغوط مع أقل كلفة ممكنة. لكن المقاومة تمكنت بعملية الأسر، إلى جانب الإنجازات الأخرى، من تحويل التهديد الذي يمثله خيار المراوحة الميدانية بالصيغة الدموية التي نشهدها، إلى نوع من الفرصة.
بتعبير آخر: في مقابل استمرار العدوان واحتلال مساحات من غزة للضغط على الواقع الفلسطيني وإخضاع المقاومة حتى تتنازل عن مطالب الشعب، استطاعت في المقابل تحويل هذا الاحتلال إلى عبء على صانع القرار في تل أبيب ومواصلة اصطياد جنوده وضباطه، لذلك تشكل عملية أسر الضابط أهم و«أجمل» الإنجازات في هذا السياق.
ويأتي نجاح العملية في وقت لم يعد الحديث فيه عن إمكانية تكرارها لاحقاً تقديراً نظرياً، خاصة إذا قرر العدو توسيع عدوانه البري، أو حتى لو قرر الحفاظ على انتشاره العسكري الحالي، وبذلك ينضم أسر الجندي إلى مجموعة الأوراق الميدانية الأخرى التي تحتاجها الفصائل على طاولة المفاوضات في القاهرة، وهي ستجري في نهاية المطاف عاجلاً أو آجلاً. كذلك لا يخفى ما تنطوي عليه هذه «الورقة» من عناصر الضغط النفسي والسياسي والشعبي الداخلي على القيادة السياسية الإسرائيلية.
من جهة أخرى، يعتمد العدو مجموعة سبل للضغط على الواقع الفلسطيني، الشعبي والسياسي والمقاوم، ومن ضمنها التلويح الدائم بالاستعداد السياسي والعملاني لتوسيع العملية العسكرية. ومن أجل ذلك، يعلن من مدة إلى أخرى، عن التصديق على استدعاء آلاف جنود الاحتياط. كذلك ترتفع الأصوات داخل إسرائيل، خاصة التي تدعو إلى التخلي عن سياسة المراوحة الحالية واتخاذ خيارات دراماتيكية، تارة تحت عنوان الدعوة إلى احتلال القطاع، وأخرى من أجل إسقاط سلطة «حماس» الفعلية. ولا يخفى أن الهدف من كل ذلك، محاولة انتزاع تنازلات من الطرف الفلسطيني عبر وضعه بين خيارين، إما التنازل عن السقف السياسي المعلن، وإما تحمل تداعيات ونتائج توسيع العملية.
في المقابل، تأتي عملية الأسر لتشكل رسالة مضادة وبالغة الدلالة، فهي تمثل ارتقاءً في مستوى الرد عبر الانتقال من الموقف السياسي الذي يؤكد تمسكه بسقفه المعلن مهما كانت التضحيات، إلى الخطوات العملانية التي تعكس فعلاً الاستعداد لمواجهة هذا الخيار الذي يهدد به العدو. أيضاً تهدف الرسالة الفلسطينية المضادة إلى وضع جيش الاحتلال وقيادته السياسية بين خيارين، إما تنفيذ تهديده بتوسيع العملية مع كل ما ينطوي عليها من نتائج وتداعيات، وإما الاكتفاء بالمراوحة أو حتى التراجع إلى الوراء والخوف من محاولات أسر أخرى، أو قبول المطالب الفلسطينية.