يرتفع بسرعة كبيرة عدّاد ضحايا زلزال السادس من شباط، في تركيا كما في سوريا، غير أن العدد النهائي لن يُعرَف، على وجه الدقّة، قبل مرور وقت طويل، فيما توقّفت أعمال الإنقاذ في بعض أحياء المدن التركية التي أصابتها الكارثة، مع نفاد الأمل بوجود أحياء، واستمرار العمل لانتشال القتلى من تحت الركام. وعلى رغم تفاوُت التقديرات، إلّا أن عدد مَن بقوا عالقين تحت الأنقاض قد لا يقلّ عن عشرات الآلاف، فيما يقترب عدد الضحايا من 35 ألف قتيل، ومئة ألف جريح. في هذا الوقت، تكشّفت أيضاً أرقام تقريبيّة لكلفة الزلزال، إذ نشرت صحيفة «دنيا» الاقتصادية تقريراً أعدّته «كونفدرالية المبادرة وعالم الأعمال التركي»، يُقدِّر خسائر الكارثة بـ 85 مليار دولار، فيما بدأت تَظهر إشارات الدعم الخارجي لتركيا، وأبرزها زيارة أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، إلى أنقرة، ولقاؤه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. وهي خطوةٌ أتت بعد زيارةِ دعمٍ لافتة لوزير الخارجية اليوناني، نيكوس ديندياس، إلى المناطق المنكوبة، وتصريح نظيره التركي، مولود تشاووش أوغلو، بأنه سيعمل على مصالحة بين البلدَين.ومع مرور الأسبوع الأوّل على الكارثة، اتّسعت دائرة الاتّهام للسلطة بالإهمال والتباطؤ، ولـ«دائرة الكوارث» بالفشل، وطُرحت تساؤلات عن أسباب تخلُّف الجيش عن النزول إلى الميدان بالقوّة اللازمة. ولم يَعُد، على ما يبدو، الحديث عن الانتخابات الرئاسية والنيابية المقرّر إجراؤها - حتى الآن - بعد ثلاثة أشهر، «مخجلاً». وفي صحيفة «جمهورييات»، كتب محمد علي غولر مقالة بعنوان «ساعة حزب العدالة والتنمية»، ينتقد فيها بشدّة مواقف قادة الحزب من زلزال السادس من شباط، وتداعياته. ويقول غولر إن «كلّ عضو في العدالة والتنمية يَخرج ويقول: الآن ليس وقت السياسة. هذا ما فعله وزير الداخلية سليمان صويلو، وفي ذلك محاولة للهروب من سؤال: لماذا لم تتّخذ حكومة العدالة والتنمية التدابير الضرورية لمعرفة سبب تلك الخسائر الكبيرة وأَوجه التقصير». ويذكّر الكاتب بزلزال «إيلازيغ» الذي حدث قبل ثلاث سنوات، وبكلام صويلو نفسه عن أن هذا «ليس وقت السياسة، بل تضميد الجراح»، معتبراً أنه في ظلّ المشهد الراهن، «كان على وزير الداخلية أن يستقيل، ولو بمفرده. لكن لم يتغيّر شيء، والنتيجة صفر كبير». ويتساءل: «إذا لم تكن المساءلة اليوم مناسِبة، فمتى تكون؟ منذ عشرين عاماً وهم يكرّرون أمام كلّ حادثة أن الوقت ليس مناسباً للمساءلة، ثمّ يأتي رئيس الجمهورية ويقول: أريد منكم مهلة سنة، ليعيد بناء كلّ شيء كما كان. إنه يريد مهلة سنة ليقوم بما لم يَقُم به على امتداد عشرين سنة». وبهذه المهلة، يتابع غولر، يريد إردوغان أن «ينشئ منبراً في المناطق المنكوبة يَخطب من فوقه من أجل الانتخابات التي يُفترض أن تجرى بعد 3-4 أشهر. في البلدان الطبيعية، كان الحاكم سيُقدِم على الاستقالة. عشيّة كلّ انتخابات، كان إردوغان يعفي الأبنية المنشأة من دون ترخيص، في مقابل دفْع المال اللازم. نعم، الكارثة كبيرة، لكن التأخير الذي حصل حتى في إرسال بعض الجنود، منذ اليوم الأول، إلى المناطق المنكوبة، كان فضيحة. هذا في الأساس إهمال العصر».
من جهته، يرى أورخان بورصه لي، في الصحيفة نفسها، أن «إعلان إردوغان أنه سيبني من جديد المناطق المهدَّمة خلال سنة، يَحمل معنيَين: الأوّل هو أنه متيقّن من أنه سيربح الانتخابات؛ والثاني هو أن الاستحقاق سيتأجّل لأسباب قاهرة، ولسان حاله يقول كيف يمكن التفكير في الانتخابات في ظلّ هذه الأوضاع المأسوية، وإن الأولوية هي لتضميد جراح الأمّة، ويمكن وصْف المطالبين بالانتخابات في هذه الظروف بأنهم خونة، وستَخرج أعذار للتأجيل بالقول إن 4 ملايين ناخب من مناطق الزلزال لن يكونوا في مناطقهم وكيف لهم أن ينتخبوا وأين سيكونون؟». ويرى بورصه لي أن تأجيل الانتخابات وبقاء السلطة في هذه الأوضاع المشوّشة سيشكّلان «كارثة ضمن الكارثة»، معتبراً أنه «حتى بناء العديد من المدن خلال سنة غير ممكن. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن إعادة بناء مدينة أنطاكيا بكلّ ما تعنيه من عبق التاريخ والثقافة وتعدّد الألوان؟»، ليخلص إلى أن «التفكير بإمكانية إعادة إعمار المدن خلال سنة، هو دعوة إلى حصول كارثة جديدة».
باتت مسألة تأمين مساكن للمنكوبين في مركز السجالات بعدما قرّر إردوغان إغلاق كلّ الجامعات في تركيا


وفي «قرار»، يَكتب إبراهيم قهوجي أن «تسوية مخالفات البناء كانت، بنظر بعض الجمهور، تعكس «رحمة» حزب العدالة والتنمية، والتخفيف عن الناس، لكنّنا رأينا كيف اختفت «اليد الممدودة» في الأيام الثلاثة الأولى من الزلزال. إن المال الذي جُمع من تسويات المخالفات قلّل من عجز الموازنة، لكنه زاد من أعداد الضحايا ولم يَبق منه شيء لحالات الكوارث». ويضيف إن «منكوبي الزلزال كانوا يريدون الدولة في اليومَين الأوّلَين، ولم يجدوها. حتى بعد 30 ساعة من الزلزال، بالكاد وصل عدد المنقذين إلى 12 ألفاً، بينما وصل عدد المنقذين الأجانب إلى ثلاثة آلاف شخص، وارتفع لاحقاً إلى عشرة آلاف، وهذا رقم كبير قياساً إلى إهمال الدولة». ويتساءل الكاتب: «لماذا لم يشارك الجيش في اليومَين الأوّلَين في عمليات الإنقاذ إلّا بشكل محدود جدّاً؟ ولماذا لم يرسَل 200 ألف من عمّال المناجم على وجه السرعة إلى المناطق المنكوبة؟ وبالكاد بلغ عددهم، مع نهاية اليوم الثاني، 275 شخصاً. بعد كلّ هذا، يريدون ألّا نتحدّث في السياسة، ويريدون أن يديروا البلد على هذا النحو. والمحصّلة، أنهم لم يَعرفوا إدارة تركيا قبل الزلزال، ولا أثناءه، والآن يقولون لك إنّنا سنبني الأبنية خلال سنة. إن الذين يطلبون من الناس فترة سماح لسنة هم الذين أَغدقوا الوعود عشيّة انتخابات عام 2018، فكان بَعدها الانهيار الاقتصادي، وإهمال الإنقاذ السريع للمنكوبين. هل يمكن بَعد كلّ هذا أن لا نطلب المساءلة؟». وفي الاتّجاه نفسه، يرى الكاتب أوتكو برطاش أن «الذي جعل الزلزال قاتلاً، ليس القدَر، بل خيارات السلطة»، معدِّداً الزلازل الكبرى التي حدثت في العالم في التاريخ الحديث، ليقول إن «الزلازل الأقوى لا تعني ضحايا أكثر. فالأهمّ التخطيط العلمي للمناطق المعرّضة للزلازل، والمساحات المخصّصة للبناء وجودة البناء»، معتبراً أن «الدول التي لا تدار بشكل جيّد هي تلك التي تكون بنية الإعمار فيها ضعيفة، ومؤشّرات الاقتصاد منخفضة، وقوّة الإدارة ضعيفة». ويضيف: «(إنّنا) ندفع ثمن هذه المواصفات الرديئة. ونتائج الزلازل ليست قدَراً، ولكنها خيارات مَن يحكمون البلد وتبايُن سلّم الأولويات عندهم».
وإضافةً إلى أولويات إنقاذ الضحايا وانتشالهم من تحت الأنقاض، فإن مسألة تأمين مساكن للمنكوبين باتت في مركز السجالات، بعدما قرّر إردوغان إغلاق كلّ الجامعات في تركيا وقصْرها على التعليم عن بُعد. والسبب في ذلك هو إخلاء المساكن الجامعية كافة من الطلّاب، لإسكان جزء من العائلات المنكوبة فيها، يُقدَّر بأكثر من 850 ألف شخص. لكن هذا القرار طرح مشكلة كبيرة تتعلّق بمصير الطلاب الذين أُخلي معظمهم بالفعل، وخصوصاً مَن ليست لديهم عائلات. وعَرضت وسائل الإعلام صوراً لأغراض هؤلاء وقد جُمعت ووُضعت أمام مداخل المدن الطالبية في أكياس كبيرة أو شنط، وكُتِبَ على كلّ منها اسم الطالب ليأتي ويأخذها. ويرى المعترضون أنه كان بالإمكان إسكان المنكوبين في فنادق ومؤسّسات عامّة وشقق فارغة في إسطنبول وسائر البلاد، تُقدَّر بحوالي مليونَي وحدة سكنية، فيما يتحفّظ آخرون على فكرة التعليم عن بُعد من أساسها. وفي هذا الإطار، يقول نائب الرئيس السابق لـ«مجلس التعليم العالي»، عيسى إيشمه، إن عدد الطلاب الجامعيين هو ستّة ملايين، من بينهم 11% (700 ألف) فقط يسكنون المدن الجامعية، متسائلاً: «هل نغلق الجامعات كلّها بسبب هذه النسبة؟»، قبل أن يضيف إن «هذا سيكون عبارة عن تهديم التعليم الجامعي». وبالنسبة إلى شرف بايار، سكرتير إحدى النقابات التعليمية، فإن «قرار الإغلاق غير قانوني، وقرار حالة الطوارئ يسري فقط على المناطق المنكوبة»، وإن «رئيس الجمهورية لا يمكنه اتّخاذ القرارات وفق صلاحيات لا يمتلكها». أمّا الكاتبة في صحيفة «غازيتيه دوار»، برين سونميز، فترى أنه «إذا أُغلقت الجامعات، فلن تقوم للبلاد قائمة من تحت الأنقاض. هذا خطأ لا يُغتفر ويجب العودة عنه». كذلك، انتقد عازف البيانو الشهير، فاضل صاي، الخطوة الأخيرة، معتبراً أنه «يجب اتّخاذ قرارات جريئة من دون وقْف جَريان الحياة في كلّ البلاد. هناك عدد كبير من الأبنية التابعة للدولة والملاعب الرياضية وقاعات المؤتمرات. في القصر الرئاسي فقط، يمكن إيواء عشرة آلاف شخص. إن إردوغان يقول إن هذه الأماكن هي ملك الأمّة. فإذا لم تكن اليوم ملكاً للأمّة، فمتى تكون؟».
وإذ جاءت حملات دعم من معظم أنحاء العالم، كان ليونيل ميسي ونوفاك ديوكوفيتش، في مقدّمة نجوم الرياضة المتضامنين مع الضحايا في تركيا وسوريا. وقال ميسي في تغريدة: «إنها أيّام محزنة جدّاً للآلاف من أبناء وعائلات الضحايا المتضرّرين من الزلزال المدمِّر في تركيا وسوريا. إن قلبي معهم»، داعياً إلى التبرّع من أجل حماية أبناء المنكوبين عبر «يونيسيف». وفي فيديو قصير برفقة صديقه التركي لاعب فريق «سامسون سبور» لكرة القدم، يوسف إيمري غولتكين، خاطب ديوكوفيتش الأتراك، قائلاً إن «قلبي معكم. آمل أن يبقى الناس أقوياء، وتجاوُز هذه الشدّة في أسرع وقت. كونوا أقوياء. مع تمنّياتي القلبية».