رام الله | مُديراً الظَهر على ما يبدو لعرض المقايضة الأميركي، القائم على تهدئة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مقابل تعزيز التنسيق والعمل المشترك في ما بين واشنطن وتل أبيب بوجه طهران، ينساق بنيامين نتنياهو، ولو جزئياً، مع الجنون العام الذي يُظهره أقطاب اليمين الفاشي في حكومته، وعلى رأسهم إيتمار بن غفير. وعلى رغم أن تلويح هذا الأخير بشنّ عملية جديد على غِرار «السور الواقي» في الضفة والقدس، ظهَر أقرب إلى تمنٍّ، إلّا أن وزير «الأمن القومي» وشركاءه استطاعوا تحصيل مطالب لا تقلّ أهمّية في الدفع نحو انفجار شامل وكبير، على رأسها شرعنة البؤر الاستيطانية وتوسيعها بما يشكّل الخطوة الأولى على طريق ضمّ الضفة، وإطلاق «مجزرة هدم» في القدس، ستطال وفق ما هو مقرَّر، العشرات من منازل الفلسطينيين
في تجسيد بليغ لمعادلة «وحدة الساحات»، التي يبدو أنها تكتسب زخماً إضافياً مرحلة بعد مرحلة، عاشت الضفة الغربية المحتلّة ومعها قطاع غزة ليلة ملتهبة، ظَهرت أقرب إلى إرهاص لِما تَدفع إليه حكومة اليمين الفاشي الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو، من انفجار شامل وكبير. إذ شهدت مدن جنين ونابلس وبيت لحم اشتباكات مسلّحة بين المقاومين وجيش الاحتلال، بينما شنّت الطائرات الإسرائيلية الحربية غارات عنيفة على القطاع، حوّلت عتمة غزة إلى ألسنة من نار. وتحوّل دوّار الشهداء في مدينة نابلس، فجر الإثنين، إلى ساحة حرب حقيقية، بعدما دفَع العدو مئات من عناصر قوّاته الخاصة ووحدة «اليمام»، معزَّزين بالآليات المدرّعة والطائرات المسيّرة والصواريخ المضادّة للدروع، إلى شنّ عدوان استمرّ أكثر من 4 ساعات، وتصدّى خلاله عناصر المقاومة لجنود الاحتلال من مسافة صفر، ما أسفر عن استشهاد الشاب أمير بسطامي وإصابة آخرين بعضهم جروحهم خطيرة.
وتركّزت العملية العسكرية الإسرائيلية في بناية وسط المدينة، تحصّن فيها المقاومان أسامة الطويل وعبد الكامل جوري من قادة مجموعة «عرين الأسود»، واللذان يتّهمهما العدو بالوقوف خلف عملية «شافي شمرون» التي قُتل فيها جندي قبل 4 أشهر. إلّا أن مجموعات المقاومة اشتبكت مع قوات الاحتلال على أكثر من محور، مُستخدِمةً القنابل المحلّية الصُنع والرصاص، ليسفر الاشتباك عن اعتقال الطويل وجوري، بينما أكد شهود عيان وصحافيون تسجيل إصابات مباشرة في صفوف جنود العدو، الذين شوهد بعضهم وهم ينقلون زملاءهم على «الحمّالة»، وتحديداً في البناية المحاصرة. وأكّدت ذلك لاحقاً مجموعة «عرين الأسود»، التي قالت، في بيان، إن «مجموعاتها فجّرت عبوة ناسفة بقوّة من جيش الاحتلال بعد استدراجها إلى كمين محكَم، وجرى إمطار جنودها برشقات كثيفة من الرصاص»، وأضافت: «نترك لقيادة جيش العدو الإنكار والتعتيم وتوزيع قتلاها على الحوادث في الطرقات والجبال والأمراض».
يشتغل الاحتلال على مسارَين اثنين سيكون من شأن كليهما الدفع نحو انفجار الأوضاع


وبالتزامن مع «ليلة الحرب» في نابلس، والتي أعطت صورة عمّا قد تشهده الضفة في المرحلة المقبلة، خاضت «كتيبة جبع» اشتباكات مماثلة، بعدما استهدف مقاوِموها قوّة من جيش الاحتلال بمحاذاة قرية عنزا القريبة من جبع، والتي كان اقتحمها جنود العدو واعتقلوا أحد شبّانها. كذلك، سُجّل اشتباك مسلّح مماثل قرب مخيم الدهيشة في بيت لحم، قبل ساعات من اندلاع مواجهات واسعة في مخيّم جنين عقِب اقتحامه من قِبَل قوات الاحتلال، ليُستشهد الطفل قصي الكايد، ويُعتقل جبريل الزبيدي، شقيق الأسير زكريا الزبيدي. وفي القدس المحتلّة، شرع جنود العدو في ارتكاب «مجزرة هدْم» في جبل المكبر، تخلّلتها مواجهات عنيفة مع المواطنين، بعدما بدأت بهدم منزل عائلة بشير، بينما تترقّب عشرات المنازل المصير نفسه.
هكذا، يشتغل الاحتلال على مسارَين اثنين سيكون من شأن كليهما الدفع نحو انفجار الأوضاع: أوّلهما، الإجراءات اليومية التصعيدية على الأرض سواءً ضدّ البشر أو الحجر، والتي يبدو أنها ستتوسّع في مقبل الأيام؛ وثانيهما: سُعار التشريعات والقوانين العنصرية التي تدأب الحكومة الإسرائيلية على تمريرها. وخلال الساعات الماضية، امتزج المساران المذكوران في خطّ واحد؛ إذ اتّخذ المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغَّر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، مساء الأحد، جملة قرارات تُعدّ بمثابة افتتاح لمرحلة جديدة غير مسبوقة من المشروع الاستيطاني في الضفة. وصادق «الكابينت» على شرعنة 9 بؤر عشوائية، والبدء بالتحضير لشرعنة سائر البؤر البالغة نحو 77، وأقرّ مخطّطات لبناء عشرة آلاف وحدة جديدة، وتعزيز مشاريع البنية التحتية في الضفة الغربية لصالح الاستيطان، وتقديم الخدمات للمزيد من المستوطنات. كما صادقت «اللجنة الوزارية للتشريع»، الأحد، على مشروع قانون من شأنه أن يسمح بسحب الجنسية وترحيل عائلات منفّذي العمليات الذين يحملون بطاقة «الهوية الزرقاء»، على أن يُطرح هذا المشروع للتصويت عليه في القراءة الأولى يوم الأربعاء، وأن تَجري مناقشة مغلَقة بخصوصه مع «الشاباك». وبحسب الاقتراح، إذا علم وزير الداخلية أن أحد أفراد عائلة «إرهابي» فلسطيني، «كان على عِلم مسبَق بخطّته لارتكاب عمل «إرهابي»، أو أعرب عن دعمه للعمل «الإرهابي»، أو نشَر عبارات المديح والتعاطف أو التشجيع على عمل «إرهابي»، يمكن للوزير أن يأمر بترحيل ذلك الشخص إلى خارج دولة إسرائيل أو إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها».
والظاهر أن أقطاب اليمين الفاشي في حكومة نتنياهو، وتحديداً إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ينجحون إلى الآن، ولو جزئياً، في فرْض ما يريدونه. إذ تبنّى «الكابينت»، بالتوازي مع قرارات الاستيطان، خطّة بن غفير لتصعيد عمليات شرطة الاحتلال ضدّ الفلسطينيين في القدس، والتي لن تكون بحجم «السور الواقي»، لكنها ستقتضي تعزيز قوّات الشرطة في المدينة، وتوسيع إجراءاتها، والتعجيل في تنفيذ عمليات الهدم، وفق ما توعّد به بن غفير. وتصبّ القرارات الأحدث في صالح الأخير ورفيقه سموتريتش على وجه الخصوص؛ فهي من ناحية تُعزّز صورتهما لدى المستوطِنين وتلبّي بعضاً من وعودهما، بعد اهتزازها على إثر العمليات الفدائية التي وقعت في مدينة القدس المحتلة (النبي يعقوب، سلوان، حيّ راموت)، والتي هاجم خلالها المستوطِنون وزير «الأمن القومي» واتّهموه بالفشل في توفير الأمن؛ ومن ناحية أخرى، تُعدّ رسالة تحدٍّ إلى الإدارة الأميركية التي رفضت، في العلن، شرعنة البؤر الاستيطانية، واتّخذت موقفاً مقاطِعاً لبن غفير وسموتريتش. وعلى خلفية هذه الخطوات التصعيدية، حذّرت منظّمة «السلام الآن» الإسرائيلية من أن «حكومة الاستيطان تَبذل قُصارى جُهدها لكي تُثبت لِمَن لم يَفهم بَعد، أنها تتّجه نحو الضمّ النشط، والقضاء على أيّ إمكانية للحلّ السياسي. الانقلاب القضائي والانقلاب في المناطق يشكّلان خطراً وجودياً على إسرائيل».
في المحصّلة، يبدو أن نتنياهو قرّر التماهي، وإنْ نسبياً، مع جنون بن غفير وسموتريتش للحفاظ على تماسُك حكومته، مديراً الظَهر لمبادرة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، من أجل استعادة الهدوء، ولجهود دول عربية، على رأسها مصر والأردن، في الاتّجاه نفسه، ما يعني صبّ المزيد من الزيت فوق النار المشتعلة أصلاً. وما يعزّز عوامل الانفجار أيضاً، أن قرار «الكابينت» «شرعنة» البؤر الاستيطانية، يُعدّ بمثابة خطوة أولى للضمّ الفعلي للضفة، ويشكّل بالتالي إحراجاً للسلطة الفلسطينية، كما للدول العربية التي سعت في الأسابيع الماضية إلى إقناع الفلسطينيين بالقبول بالمبادرة الأميركية. وفي هذا الإطار، حذّرت وزارة الخارجية المصرية من أن خطوات «الكابينت» من شأنها «تأجيج الوضع المحتقِن بشدّة في الأراضي المحتلة، بشكل ينذر باتّساع نطاق أعمال العنف ووتيرتها، وبتداعيات وخيمة على أمن واستقرار المنطقة كلّها»، مطالِبةً بـ«التوقّف بشكل فوري عن كل الإجراءات الأحادية من جانب إسرائيل، بما في ذلك هدْم المنازل، والاعتقالات، والمداهمات، التي تستهدف أبناء الشعب الفلسطيني وممتلكاته»، في حين نبّهت الخارجية الأردنية إلى أن «مِثل هذه الإجراءات ستدفع نحو المزيد من العنف الذي سيدفع الجميع ثمنه».