الموصل | الحدباء ومدينة الأنبياء وأم الربيعين، لعلها أبرز الألقاب التي اشتهرت بها مدينة الموصل شمالي العراق، لكنها الآن مرشحة بقوة لاكتساب لقب جديد، هو «عاصمة الدولة الإسلامية». عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» المسيطرون على المدينة منذ 10 حزيران الماضي، هم من يروجون لهذا اللقب، ولم يأت ذلك من فراغ، إذ تُوّج اهتمام التنظيم في الموصل، بأول ظهور علني لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، عندما خطب الجمعة في أبرز جوامعها، داعياً المسلمين إلى مبايعته واتّباعه.

إذا كان ثمة جدية في إقامة دولة إسلامية، فمن المؤكد أن أولى لبناتها توضع هنا في الموصل.
بين ليلة وضحاها، حلّت الرايات السوداء مكان العلم العراقي، وهناك وسط المدينة، أبواب المحكمة الرئيسة أوصدت بإحكام، وبعد 40 يوماً على حكم «الدولة»، أيقن الحقوقي أحمد مزعل أن عودته إلى الوظيفة مرهونة بزوال هذا الحكم.
«لا مجال بعد اليوم لمن يحكم بغير ما أنزل الله»، هكذا رد مسلح يقف بباب المحكمة على مزعل، عندما سأله عن مصير وظيفته، وفيما كان الحقوقي يبتعد مخلّفاً في المحكمة 20 سنة من الذكريات، شاهد لافتة كبيرة كتب عليها، «ديوان القضاء».
في البناية التي عُلّقت اللافتة على جدرانها، يجلس «قاضٍ شرعي»، يتولى عقد الزواج وينظر في جميع القضايا من النزاعات البسيطة بين المواطنين، إلى تهم «الردة والكفر»، وكل العقوبات التي أقرّها القرآن والسنة النبوية وإرادة التطبيق، من قتل وجلد ورجم وبتر أطراف وغيرها.

سيارات الشرطة الإسلامية تجوب شوارع الموصل

لمساندة السلطة القضائية، شُكّلت قوة جديدة باسم «الشرطة الإسلامية» تجوب الشوارع أو تتمركز في المناطق المهمة، لحفظ الأمن والنظام والحرص على تطبيق القانون الإسلامي. السيارات التي حملت شعار «الشرطة الاسلامية»، تعود أصلاً لشرطة النجدة أو لمسؤولين عراقيين فارين.

بدأ «الدولة» بفرض
رسوم جمركية على البضائع وخاصة النفط

أما تنفيذ المداهمات المبنية على معلومات استخبارية، فتلك وظيفة «الأمن الإسلامي». عناصر هذا التشكيل يتولون مهمة إلقاء القبض على المطلوبين، ومصادرة ممتلكات المسؤولين وضباط الجيش ممن لم يعلنوا توبتهم، أو ما زالوا في الخدمة، وكل «مرتد» أو «كافر».

منع السجائر والجينز والملابس الداخلية

«الحمد لله الذي استعملَنا في إنقاذ الناس من المهلكات والمحرمات»، هكذا قال مسؤول مفرزة الحسبة - الجهاز الرقابي – للحاضرين، وهو يضرم النار في أحد مخازن السجائر والمعسّل بعد أسبوع على منع تدخين النرجيلة في المقاهي.
صلاحيات الحسبة تمتد إلى الرقابة على «شرعية» اللباس، حيث منع التجار ومحال بيع الألبسة، من استيراد الجينز والـ(بادي) الضيق، ما عدا العباءة الإسلامية والملابس الفضفاضة. وشمل الحظر ملابس الشباب، فقد مُنعت الصيحات الخارجة عن المألوف كالجينز المشرح وتلك التي تحمل أعلام دول غربية.
التاجر عمار الخزرجي ضرب كفاً بكف عندما علم بالقرارات الجديدة، لأنه استورد من الصين بضاعة بآلاف الدولارات، هي الآن في عرض البحر، إلا أنها لا تتناسب ومعايير «الدولة».
«الدولة الإسلامية» تحاول التدخل في كل صغيرة وكبيرة، وإضفاء الطابع الإسلامي على كل شيء، ففي أول حادثة من نوعها، جلد عناصر الحسبة شاباً أمام الناس في سوق السرجخانة وسط الموصل.
الجميع هناك سمعوا الجلّاد يردد: «هذا مصير من يجرؤ على التحرش بنساء المسلمين».

أين يذهب «الدولة» بأموال المصارف؟

يوازي كل ذلك نشاط اقتصادي كبير، فعندما كانت القوات العراقية تسيطر على الموصل، كان «الدولة» يجبي من عمليات الابتزاز وحدها نحو 7 ملايين دولار شهرياً، وِعندما انقلبت المعادلة، صار التنظيم أغنى الجماعات الإرهابية في العالم، لأن «سلة خبز العراق» باتت في متناول يده، إنه يسيطر على نصف مليار دولار تقريباً مودعة في مصارف الموصل.
«الدولة» بدأ يتصرف بالأموال الموجودة في المصارف، فقد كشف مصدر مطّلع عن سحب أموال مصرفين اثنين على الأقل حتى الآن.
ويضيف المصدر أن المسؤول المالي ومن يرتبط به يفرضون رقابة صارمة على عملية الصرف، إذ تُنفق أغلب الأموال على كفالة (رواتب) المقاتلين المتطوعين، وتقدر بـ 60 دولاراً للمقاتل شهرياً و20 دولاراً لكل طفل بالنسبة إلى المتزوجين، فضلاً عن دفع بدل إيجار لعناصر التنظيم من الخط المتقدم، ورواتب الكفالة لعوائل «الشهداء».
لكن أكثر الأموال تذهب في سبيل إدامة زخم المعارك التي يخوضها التنظيم حالياً في العراق وسوريا.
ومن الواضح أن للتنظيم عقولاً تجارية تتولى استثمار أمواله، فمع تفاقم أزمة شح الوقود، انتشرت محطات خاصة لبيع البنزين المستورد من تركيا وبأربعة أضعاف السعر المعتاد، وهذه المحطات تعود ملكيتها للدولة الإسلامية أو لأشخاص يدفعون نسبة من الأرباح لها.
تشديد القبضة على المدينة مكّن عناصر التنظيم من إحكام السيطرة على المداخل والمخارج، ليس لدواع أمنية فقط، بل لفرض الرسوم الجمركية أيضاً، فتلك الرسوم تأتي بدرجات متنوعة؛ عن كل صهريج نفط يحصل مقاتلو «الدولة» على 1500 دولار، والشاحنات الكبيرة 200 دولار، والمتوسطة 100 دولار.
وللجانب الإعلامي والدعائي نصيب وافر في نشاط «الدولة الاسلامية»، ثمة لجنة إعلامية لولاية نينوى تتولى تغطية جميع النشاطات بالصور ومقاطع الفيديو، وتنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصةً تويتر، كما لا ننسى دور المساجد في إيصال تبليغات وتوجيهات «الدولة».
صارت الموصل بعد 40 يوماً على سيطرة تنظيم «الدولة» عليها قبلة للجهاديين المتشددين من كل أنحاء العالم، وها هي مشافيها تزدحم بالجرحى العرب والأجانب ممن يصابون جرّاء المعارك في سوريا والعراق على السواء.