حلب | لم يستطِع جسد الطفلة ذات العامين، نور الحسين، الصغير، تحمُّل قوّة الزلزال الذي ضرب مدينة حلب، فأسقطها من على سريرها وأوقعها على الأرض، فتنبّهت والدتها فوراً، وحملت طفلتها بين ذراعَيها وركضت بها إلى خارج البيت، خوفاً من انهياره في أيّ لحظة بفعل الشقوق التي جعلته غير صالح للسكن. هذه اللحظات ترويها، لـ«الأخبار»، أُمّ نور، الثلاثينية، نجاة حياك، التي هربت من منطقة بستان الزهرة العشوائية، بعد تعرُّضها لدمار كبير، إلى مركز إيواء في «جامع حذيفة» في حي المشارقة؛ وتقول: «سقوط ابنتي الصغيرة على الأرض، لحظة الزلزال، سبّب لها كسراً في حوضها، وقد أُجريت لها الإسعافات الأولية، لكنها تحتاج إلى عملية جراحية عاجلة كي لا تصاب بإعاقة دائمة».
نخوة السوريين
كلام والدة نور بدا أشبه بالمناشدة لإنقاذ طفلتها الصغيرة، وخاصّة أنها لا تمتلك وزوجها، بحسب ما تقول، القدرة المادية للتكفُّل بعلاجها. فالأب عامل بسيط، وأحواله كانت أصلاً سيّئة بفعل الغلاء والظروف الاقتصادية والمعيشية المتردّية، فكيف اليوم بعد تضرُّر منزل العائلة الذي لم يَعُد ممكناً العيش فيه. ولكن نخوة السوريين، على رغم مصابهم الكبير، حضرت لتلبية نداء الأمّ، إذ أبدى عدد من المتبرّعين رغبتهم في مساعدتها وتحمُّل تكاليف العملية، لترتسم الفرحة من جديد على وجه نجاة حياك، التي كانت تخشى مضاعفات صحيّة تؤذي ابنتها.
وليست الطفلة الصغيرة نور، وحدها من عاش آلام زلزال حلب المدمّر وتضرّر من آثاره؛ فالطفل عمر (6 أشهر) كان مع أخواته الخمس، اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 8 أعوام و20 عاماً، من ضحاياه، حيث فقدوا أمهم وأباهم وأخاهم عند انهيار المبنى الذي يقطنون فيه في شارع بارون الواقع وسط مدينة حلب، ونقلوا بعدها إلى مستشفى الرازي لتلقّي العلاج. لكنهم باتوا، اليوم، وحيدين من دون معيل يتكفّل في تأمين احتياجاتهم. ويُبدي كلّ من يَعرف قصّة عائلة الجويد تعاطفاً ورغبة في المساعدة، لكن الصغير عمر الذي لا يدري ما يدور حوله ولا يدرك حجم مصيبته يظلّ صامتاً مع ابتسامة خفيفة تحيي الأمل في النفوس المتعبة.

وحيدون في الفاجعة
الضحايا الأطفال من جرّاء الزلزال المهول كثيرون، وإنْ اختلفت رواية كل واحد منهم عن الآخر. ومن الأسئلة التي يمكن طرْحها، كيف لتلك الطفلة الصغيرة ذات الأعوام الثمانية التي خرجت حيّة مع ستة أشخاص آخرين فقط - من أصل 70 شخصاً - من تحت أنقاض المبنى المنهار في حيّ المشارقة، أن تمضي بقيّة حياتها، بعد مفارقة جميع أفراد أُسرتها الحياة، ومَن سيتكفّل برعايتها اجتماعيّاً ونفسيّاً.
في المقابل، كادت الطفلة ندى (13 عاماً)، أن تخسر حياتها، وخاصّة أنها مصابة بإعاقة في النطق والحركة. لكن والدها، بحسب ما تروي أمّها، تمكّن من إنقاذها، بعدما سارع إلى حمْلها لحظة وقوع الزلزال والنزول بها إلى الشارع مع بقية أفراد عائلته قبل انهيار المبنى بلحظات في منطقة بستان الزهرة المخالِفة، والتي تعاني وضعاً صعباً بعد تضرُّر معظم المنازل المقامة فيها وانهيار بعضها وتصدع القسم الأكبر منها، ما جعل عائلات كثيرة بلا مأوى أو مسكن، في ظلّ النقص في المعونات، على رغم توافد المساعدات محلياً وعربياً ودولياً.
الضحايا الأطفال من جرّاء الزلزال المهول كثيرون، وإنْ اختلفت رواية كل واحد منهم عن الآخر


على أن أضرار الزلزال المأسوية لا تقتصر على الأذية الجسدية والنفسية للأطفال، الذين يُعدّون أكثر المتضرّرين من هذه الكارثة. فعلى رغم مضيّ اليوم السادس على فاجعة أهل حلب، لا يزال بعض الأطفال ينامون مع عائلاتهم في العراء وسط جوّ شتوي شديد البرودة، إذ يفضّلون نصب خيم على أرصفة الشوارع والحدائق، والمبيت فيها بدلاً من اللجوء إلى مراكز الإيواء، التي لا تتوافر فيها أدنى مستلزمات العيش، فضلاً عن أنها غير مجهّزة للسكن والمنامة، وخاصّة أنها تضمّ عدداً كبيراً من العائلات من دون وجود أيّ مساحة فاصلة بين عائلة وأخرى، ومن دون مراعاة انتشار الأمراض، ما يعرّض الأطفال والعجزة لاحتمال الإصابة بالأمراض المعدية، وخاصة «كورونا» و«كوليرا»، اللذين لا يزال خطرهما قائماً، إضافة إلى احتياجات بعض الأطفال والكبار في السنّ إلى أدوية مكلفة.
يضاف إلى هذه المصائب، سوء توزيع الأغذية والمعونات الذي أثّر على الأطفال، ولا سيما الرضّع، إذ تعاني سوريا نقصاً في كميات حليب الأطفال منذ ما قبل وقوع الزلزال. وهنا، تقول الطفلة شام بشكل عفوي، بينما تجلس مع أمها وأخواتها على الرصيف بحثاً عن بعض الدفء الذي توفّره أشعة الشمس، إن الذين كانوا يوزّعون طعاماً لم يعطوها الحليب مع أنها كانت تشتهيه وتشعر بالجوع. لكن إمام «جامع حذيفة» (تحوّل الى مركز إيواء في حي المشارقة)، والمشرف على عمليات التوزيع، أكد أنه يتمّ توزيع كل المواد الإغاثية التي يقدّمها أهل الخير والمتبرعون، إذ لم توزّع، حتى اليوم، احتياجات الإغاثة من طعام وبطانيات من الجهات الحكومية أو المنظّمات الدولية، كما يلفت، مشيراً إلى حصول بعض الأشخاص في مراكز الإيواء على أكثر من حاجاتهم على حساب عائلات أخرى، وهو أمر تم تداركه عبر طبْع «طبعة زرقاء» على كفّ اليد منعاً لمثل هذه التصرفات، ولإيصال المعونات إلى مستحقّيها. وطالب إمام الجامع بنقل المتضرّرين من الزلزال إلى مركز آخر، لكون الجامع تعرّض أيضاً لأضرار، ما يشكّل خطراً على العائلات المقيمة فيه.