على نحو بدا مستعجلاً، بعد أن ضرب زلزال مدمّر تركيا وسوريا، وأدّى إلى دمار واسع في أربع محافظات سورية أعلنها مجلس الوزراء «منكوبة» (حلب، إدلب، حماة واللاذقية)، قرّر الرئيس التونسي، قيس سعيد، رفع تمثيل بلاده الدبلوماسي في دمشق، في خطوة أولى ضمن سلسلة خطوات تهدف إلى تطبيع العلاقات مع دمشق. وأشاد سعيد، الذي أعلن عن هذه الخطوة أثناء استقباله نبيل عمّار الذي عيّنه في منصب وزير خارجية جديد للبلاد، خلفاً لسلفه عثمان الجرندي، بإصرار دمشق على رفض التدخل الخارجي، عادّاً «قضية النظام السوري شأناً داخلياً يهمّ السوريين بمفردهم»، مذكّراً بـ«عديد المحطّات التاريخية التي عاشتها سوريا منذ بداية القرن العشرين والترتيبات التي حصلت منذ ذلك الوقت لتقسيمها». وجاء قرار تونس الأخير بعد نحو ستّ سنوات على إعادتها تمثيلاً دبلوماسياً محدوداً مع دمشق عام 2017، إثر تغييرات سياسية داخلية تونسية، أطاحت نظام حركة «النهضة» المرتبطة بجماعة «الإخوان المسلمين»، والتي قطعت العلاقات مع دمشق عام 2012. وعبّرت تونس، مذّاك، مِراراً عن رغبتها بالتطبيع مع دمشق، من دون اتّخاذ خطوة واسعة في هذا المجال طيلة الأعوام الستّة الماضية، علماً أن ملفّ العلاقات مع سوريا كان من بين ملفّات الانتخابات الرئاسية التونسية، حيث وعد سعيد حينها بإعادة العلاقات بين البلدين، بالتزامن مع حملات شعبية ونقابية عديدة شهدتها البلاد تطالب بذلك. وكانت تونس قد تواصلت مع سوريا طيلة السنوات الفائتة لبحث ملفّات أمنية عديدة، من بينها ملفّ «الجهاديين» التونسيين الذين دخلوا سوريا وقاتلوا في صفوف تنظيمات عديدة على رأسها «داعش»، بالإضافة إلى قضايا أمنية مشتركة بين البلدين، وبعض القضايا الاقتصادية، غير أن القرار الأخير يعني الارتقاء بهذا التواصل إلى مرحلة جديدة.
وبهذه الخطوة، تنضمّ تونس، بشكل رسمي، إلى ركْب الدول التي تجاوزت الحظر الأميركي، والتي تضمّ دولاً عربية عدّة من بينها الإمارات والأردن والجزائر وسلطنة عمان والعراق والبحرين وغيرها، في وقت لا تزال فيه كلّ من مصر والسعودية تراقب الأوضاع، وسط تردّد واضح لديهما، على رغم محاولات قادتها الإمارات لكسر هذا الجمود. أمّا قطر فتتابع سياستها المعادية لدمشق بشكل علني. وعلى الرغم من إسراع مصر في التواصل مع سوريا، وإرسال شحنات من المعونات والمواد الإغاثية العاجلة عقب الكارثة، ما زال الموقف المصري حذراً ومتريّثاً، الأمر الذي رأت فيه مصادر سورية أنه يتعلّق بالحظر الأميركي، الذي يدفع القاهرة إلى التأنّي في خطواتها، خصوصاً أن الولايات المتحدة أعادت تنشيط حراكها السياسي والميداني في سوريا، وصعّدت خلال الشهور القليلة الماضية من حملتها ضدّ الحكومة. والجدير ذكره، هنا، أن دمشق أشارت سابقاً، في مرّات عديدة، إلى أنها تتفهّم مواقف بعض العواصم التي تتواصل معها بشكل غير علني.
لا يمكن الحديث عن خطوة حقيقية من قِبَل الرياض نحو دمشق في الوقت الحالي


أمّا السعودية، التي التفّت على الحظر الأميركي عبر تكليف منظّمات بجمع تبرّعات وإرسال مساعدات إلى سوريا، فلا يمكن الحديث عن خطوة حقيقية من قِبَلها نحو دمشق في الوقت الحالي، خصوصاً في ظلّ إبقائها ملفّ الحجّ بيد «الائتلاف» المعارض، ما يعني أن أولى الخطوات التي يمكن أن يُبنى عليها تطبيع حقيقي بين البلدين تبدأ بهذا الملفّ، علماً أن ثمّة تحرّكات روسية وإماراتية متواصلة لإعادة تطبيع العلاقات السورية - السعودية، لِمَا لها من تأثير كبير على الساحة السورية بشكل خاص، وفي المنطقة بشكل عام.
في هذا الوقت، وبينما كانت تركيا تغلق أبوابها في وجه المساعدات المرسَلة إلى إدلب بحجّة عدم سلامة معبر باب الهوى، الوحيد الذي يمكن لمنظمات الأمم المتحدة إدخال مساعدات عبره إلى الشمال الغربي الخاضع لسيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، سارعت دمشق إلى بحث إمكانية إرسال المساعدات عبر الخطوط، الأمر الذي تولّت الإمارات الوساطة لتحقيقه. وجهّزت الحكومة السورية، على مدار الأيام الثلاثة الماضية، قافلة مساعدات إغاثية إلى المنكوبين في إدلب، في حين تولّت أبو ظبي إجراء اتّصالات لفتح الباب أمام هذه المساعدات، وضمان وصولها إلى المواطنين السوريين، ومنْع تحكّم «تحرير الشام» بها، وهو ما أسفر في النهاية عن فتح معبر سراقب لإدخالها يوم غد السبت.
وبالتوازي مع تحرّكاتها لإغاثة إدلب، التي أعلنتها دمشق مدينة منكوبة إلى جانب كلّ من حلب وحماة واللاذقية، أعادت دمشق التذكير برفضها تسييس الملفّ الإنساني، ومحاولة بعض الأطراف الدولية استثمار الكارثة لفرض واقع معين، وتقديم دعم لمناطق على حساب أخرى، وهو ما عبّر عنه بشكل مباشر وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، خلال لقاء تلفزيوني. إلّا أنه لم تكد تعلن الحكومة السورية نجاح الجهد الإماراتي في فتح معبر سراقب، حتى علت بعض الأصوات التي تخشى من خسارة «ورقة المساعدات» تنديداً بهذه الخطوة، في وقت سارعت فيه الأمم المتحدة إلى بدء إدخال مساعداتها إلى إدلب، عبر «باب الهوى»، علماً أن القافلة التي تمّ إدخالها من هناك كانت مجدولة قبل وقوع الكارثة، وهي جزء من المساعدات الأممية التي يتمّ تمريرها عبر هذا المعبر وفق قرار مجلس الأمن 2642، الذي تمّ تجديده لستة أشهر إضافية مطلع العام الحالي، والذي ينصّ أيضاً على إدخال مساعدات عبر الخطوط (تحت إشراف دمشق).
في هذا السياق، تتوقّع مصادر مطّلعة، في حديث إلى «الأخبار»، زيادة وتيرة المساعدات عبر الخطوط من دمشق إلى المتضرّرين في إدلب خلال الفترة المقبلة، خصوصاً أن الكارثة تتطلّب، إلى جانب المساعدات الإغاثية العاجلة، عملاً كبيراً يؤمّن للمتضررين مساعدات دورية، ضمن جهود واسعة تشمل المدن المنكوبة الأربع. وإذ سيَلقى ذلك التوجّه محاولات مقاومة من بعض الأطراف التي تحاول الاستمرار في استثمار الملف الإنساني، غير أن حجم الكارثة سيفوق قدرة تلك الأطراف على المقاومة، الأمر الذي يعني تثبيت قنوات تواصل داخلية تصل الشمال الغربي من سوريا ببقيّة المناطق والمدن السورية، ويفتح الباب أمام كسْر الخطوط الوهمية التي رسمتها الحرب لمناطق السيطرة.